اكتفى مجلس الأمن الدولي المكلف بالأمن والسلم الدوليين وفق ميثاق الأمم المتحدة، ببيان بدلا من إصدار قرار.، وقد عبر المجلس فيه عن قلقه واستيائه العميقين من إعلان إسرائيل المزيد من إجراءات إسرائيلية الاستيطانية غير الشرعية، والتي قضت بشرعنة تسع بؤر استيطانية في الضفة الغربية المحتلة، بحجة أن مثل هذه الإجراءات تعيق حل الدولتين المزعوم. وأدان البيان جميع أعمال العنف ضد المدنيين بما في ذلك الأعمال الإرهابية وأعمال التحريض التي تستهدف المدنيين، ويذكر السلطة الفلسطينية التزامها بالتخلي عن الإرهاب ومكافحته. ودعا مجلس الأمن إلى التزام الهدوء وضبط النفس والامتناع عن الأعمال الاستفزازية والخطاب التحريضي والاحترام الكامل للقانون الدولي الإنساني لضمان سلامة المدنيين ورفاهيتهم. وفي الختام دعا مجلس الأمن إلى الحفاظ على الوضع التاريخي القائم في الأماكن المقدسة قولا وعملا من دون ما تغيير بما في ذلك احترام الوصاية الهاشمية ودورها.
أولا، وقبل كل شيء بيانات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة واليونسكو نادرا ما تلزم وهي ذات بعد أدبي معنوي. حتى قراراتها لا تلزم الدول الأخرى من الناحية العملية، وإن ألزمتها ظاهريا من الناحية النظرية القانونية. لذلك يتمرد الكيان الإسرائيلي ومن شابهه على هذه القرارات مجتمعة ومنفردة منذ قيامه وإلى يومنا هذا. ولعل خير دليل على ما نقول، أن العشرات من قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية، مركونة على الرفوف وعلاها الغبار، وبقيت حبرا على ورق. أضف إلى ذلك أن هذه المؤسسة الدولية المسيسة القابعة في نيويورك لم تجرؤ على إصدار قرار من مجلس الأمن مربوط بالفصل السابع (فصل الجزاءات الدولية) مرة واحدة في تاريخها كلها، وليس كما حصل مع العراق حينما توالت القرارات الملزمة بموجب الفصل السابع فور احتلال العراق للكويت. ناهيك عن المعايير المزدوجة التي تطبق على أوكرانيا والقضية الفلسطينية من قرارات ومساعدات ومواقف وأسلحة وإلزام وكذبة حل الدولتين ورغم ذلك لم يسلم البيان من النقد الإسرائيلي.
بيان مجلس الأمن الذي استعيض عن قرار له يحتوي بين جنباته مفردات غير مقبولة في أدبيات الأمم المتحدة، بل تمثل تراجعا عن الأدبيات السائدة في قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن. فمثلا مجلس الأمن يعبر عن «قلقه واستيائه العميقين» من إجراءات الكيان الاستيطانية وشرعنة البؤر الاستيطانية. فبدلا من أن يدين مجلس الأمن الإجراءات الاستيطانية الإسرائيلية الاحتلالية بأقوى العبارات، هو يكتفي بالإعراب عن قلقه واستيائه بأخفها.
وبدلا من أن يدعو إلى محاكمة المستوطنين عن أفعالهم الاستيطانية التي تشكل جرائم حرب وخروقات خطيرة لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وبرتوكول 1977، وميثاق المحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، يتواضع مجلس الأمن ويعرب فقط عن قلقه واستيائه من الجرائم الإسرائيلية. وبدلا من أن يؤكد بيانه قرار مجلس الأمن 2334 لعام 2016 الخاص بوقف الاستيطان كليا وإدانته، وعدم شرعيته الصارخة وفق القانون الدولي، واعتباره غير شرعي من عام 1967 حتى اليوم وفي الضفة الغربية والقدس، حيث يعتبر إخلالا بالتوازن الديموغرافي ومصادرة وهدم المنازل الفلسطينية وتشريد المدنيين الفلسطينيين ولا يعترف بالتغييرات الحاصلة بعد الرابع من حزيران 1967. أليس هذا تراجعا صارخا عن قرار مجلس الأمن 2334 لعام 2016، بل شتان بينهما، حيث الجديد مجرد بيان والقديم قرار ملزم من ناحية قانونية ونظرية. وبدلا من أن يشكل لجنة تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية وضد الإنسانية يصدر مجرد بيان.
هو بيان خطير لمجلس الأمن، لأنه يحمل معنى التراجع والنكوص عن قرارات سابقة شكلت مركزا قانونيا متقدما للقضية الفلسطينية في مجلس الأمن، . فرغم أن البيان أقل مرتبة من القرار، إلا أن الأول ألغى كثيرا من الثوابت الراسخة للقضية الفلسطينية أو على الأقل تراجع عنها ولم يذكرها وأسقطها أو كأنه عدلها. فهل تبقى قائمة أم غدت في مهب الريح ومحل شك وتحتاج إلى جهد جديد وقرارات جديدة لتأكيدها.
لوحظ في هذا البيان اقترابه من المفردات الإسرائيلية حينما أدان أعمال العنف والتحريض ضد المدنيين بشكل مطلق ووصفها بالإرهابية، وكأنه قصد أعمال المقاومة الفلسطينية تحديدا، وبخاصة أنه حض السلطة على القيام بواجباتها في هذا المجال. وقد كان من المفروض أن يربط أعمال العنف والتحريض والإرهاب بما تمارسه أجهزة الأمن الإسرائيلية بكل أذرعها في الضفة والقدس وقطاع غزة من أعمال وتصرفات وإجراءات من قتل لأطفال وتصفيات جسدية وهدم غير قانوني للمنازل الفلسطينية وحواجز وإغلاقات واعتقالات لأحداث واعتقالات إدارية وعقوبات جماعية.
وألا يكون شبهة في ربطها بالمقاومة الفلسطينية. وهذا منحى خطير لمجلس الأمن ويعبر عن سلسلة تراجعات منهجية. فمجرد صدوره عن مجلس الأمن في بيان بدل قرار يؤكد تراجعه. أما بقية خطابها فلا يسمن ولا يغني من جوع في المفردات القانونية الدولية.
كل البيانات والقرارات والتصريحات الصادرة من هيئات ومنظمات وشخصيات دولية لا قيمة للمداد الذي تكتب فيه إن لم يرافقها الإلزام. وليس بالضرورة أن يكون هذا الإلزام عسكريا، فقد يكون اقتصاديا مثل مقاطعة منتجات المستوطنات، وعدم الاستثمار فيها، وسحب الاستثمارات منها، ومقاطعة الشركات الكبرى فيها أو جامعاتها أو أنشطتها الثقافية وغيرها كثير.
رغم قوة حقنا وضعف وضعنا، إلا أن التراجع عن القرارات المهمة لمجلس الأمن والجمعية العامة والاكتفاء ببيان هش، هو أمر مرفوض، ويجب ألا يحدث، . فتوافر البعد الدولي والقانون الدولي والقوة الذاتية والعدالة والقوة الاقتصادية كفيلة بترجمة الحق في تقرير المصير إلى دولة حقيقية فما ضاع حق وراءه مطالب!
{ محام وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك