بقلم د/ غريب جمعة
ما الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال؟
الأمانة هي التكاليف الإرادية المختارة بل يتسع مفهومها ليشمل كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته.
وهذه الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها مع الإشفاق منها، (والإشفاق هو الحب مع الخوف) وهذا الإشفاق هو الذي جعل الكائنات كافة تتهيب التكاليف الإرادية المختارة التي لا يأمن مخلوق على نفسه من الانحراف عنها والتقصير فيها مادام يملك حرية الإرادة في الانقياد لها أو تركها. وهذا موطن الخوف والحذر وهذا الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شاني كله لا إله إلا أنت».
(أخرجه أبو داود وأحمد)
يقول الله تعالى: (إنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى السموات وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إنه كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). [الأحزاب: 73] والمعنى: إنا عرضنا التكاليف كلها من فرائض وطاعات على هذه الأجرام العظام، فلم تطقها وأبت تحمل مسؤوليتها وخافت من حملها، لو فرض أنها ذات شعور وإدراك ولكن كُلف بها الإنسان فتحملها مع ضعفه وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول القدر مما تحمله (1) (التفسير المنير الجزء 22 صفحة 451 وما بعدها).
روى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدُّنيا حفظُ أمانةٍ وصدقُ حديثٍ وحسنُ خُلقٍ وعِفَّةٌ طُعمةٍ»(3). ومن العلماء من يرى أن الآية من المجاز أو ضرب مثل.
وسواء أكان العرض حقيقة أم مجازًا وضرب مثل فالمقصود من الآية بيان عظمة التكاليف وثقلها وتنبيه الإنسان لخطورة المسؤولية عنها فلا يفرط فيها وهو بين خيارين إما العصيان فالعذاب وإما طاعته فالثواب والله غفور رحيم. (المسند (6652) وقال الشيخ أحمد شاكر اسناده صحيح).
أما التكاليف الجبرية القائمة بالأكوان كافة فليس وراءها تبعة لأن الجبر هو إنابة فطرية في الكائن فلا يخشى منه أي إعراض أو تقصير في حقها. بل يأتيها طائعًا مختارًا فرحًا بها وهذا يفسره قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائعِينَ (41/فصلت /11.
ومن أجل ذلك فالأمانة أمرها خطير وشأنها عظيم، فينبغي لهذا الإنسان الذي يملك حُرية الإرادة في الأخذ بها أو الإهمال فيها أن يكونا مطيعًا مقبلًا عليها حفيًا بها مقدرًا لنتائجها الكبيرة المباركة التي تحصل له بسبب الإقبال عليها والأخذ بها.
نعم.. هناك من يعرض عنها بحكم حُرية الإرادة المختارة، هذه الإرادة الجزئية التي جعلها الله لامتحان عباده واختبارهم وهم صنف من الإنس والجن.
وفي شأن الفريقين يقول الله تبارك وتعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). [22 /الحج/18.
ويقول تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). [7 /الأعراف /179.
فأنت ترى أن جميع الأكوان بأجرامها وكائناتها يسيرها الجبر الإلهي، ما عدا البشر الذين منحوا حُرية الإرادة لذلك ذكر منهم من أطاع وانقاد وآمن وأتمن وأدركه الرشد الخير المبارك. وهؤلاء كثير.
وكثير أبت نفوسهم إلا غرورًا وعصينًا وسيرًا وراء أهوائهم وشياطينهم. وقد أطلق على المطيعين كثيرًا مع أنهم الأقل تمجيدًا لهم وتنويهًا بشأنهم وإعلانًا عن قبول أعمالهم وإقبالهم على ربهم.
وهذه الآية تشير إلى رحمة الله بعباده الصالحين ورفع قدرهم وإشعارهم بأن لهم الحسنى وزيادة وإن قلوا في أعين الناس فهم عنده جل جلاله كثير.
ولذلك لا مناقضة بين هذه الآية وقوله تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ».[6/الأنعام/116.
وقوله: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عهدۢ وَإِن وجدنآ أَكْثَرَهُمْ لَفَسِقِينَ).
7/الأعراف/102].
لأن المقام هنا لبيان الفريقين في علم الله الأزلي.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإحسان في أداء الأمانات التي بيننا وبين الله والتي بيننا وبين خلق الله.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك