العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الاسلامي

الأمانة والتكاليف

الجمعة ٠٣ مارس ٢٠٢٣ - 02:00

بقلم‭ ‬د‭/ ‬غريب‭ ‬جمعة

ما‭ ‬الأمانة‭ ‬التي‭ ‬عرضت‭ ‬على‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض‭ ‬والجبال؟

الأمانة‭ ‬هي‭ ‬التكاليف‭ ‬الإرادية‭ ‬المختارة‭ ‬بل‭ ‬يتسع‭ ‬مفهومها‭ ‬ليشمل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يؤتمن‭ ‬عليه‭ ‬ويطلب‭ ‬حفظه‭ ‬ورعايته‭. ‬

وهذه‭ ‬الأمانة‭ ‬عرضت‭ ‬على‭ ‬السماوات‭ ‬والأرض‭ ‬والجبال‭ ‬فأبين‭ ‬أن‭ ‬يحملنها‭ ‬مع‭ ‬الإشفاق‭ ‬منها،‭ (‬والإشفاق‭ ‬هو‭ ‬الحب‭ ‬مع‭ ‬الخوف‭) ‬وهذا‭ ‬الإشفاق‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الكائنات‭ ‬كافة‭ ‬تتهيب‭ ‬التكاليف‭ ‬الإرادية‭ ‬المختارة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يأمن‭ ‬مخلوق‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الانحراف‭ ‬عنها‭ ‬والتقصير‭ ‬فيها‭ ‬مادام‭ ‬يملك‭ ‬حرية‭ ‬الإرادة‭ ‬في‭ ‬الانقياد‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬تركها‭. ‬وهذا‭ ‬موطن‭ ‬الخوف‭ ‬والحذر‭ ‬وهذا‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬اللهم‭ ‬رحمتك‭ ‬أرجو‭ ‬فلا‭ ‬تكلني‭ ‬إلى‭ ‬نفسي‭ ‬طرفة‭ ‬عين‭ ‬وأصلح‭ ‬لي‭ ‬شاني‭ ‬كله‭ ‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬أنت‮»‬‭.‬

‭(‬أخرجه‭ ‬أبو‭ ‬داود‭ ‬وأحمد‭)‬

يقول‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭: (‬إنَّا‭ ‬عَرَضْنَا‭ ‬ٱلْأَمَانَةَ‭ ‬عَلَى‭ ‬السموات‭ ‬وَٱلْأَرْضِ‭ ‬وَٱلْجِبَالِ‭ ‬فَأَبَيْنَ‭ ‬أَن‭ ‬يَحْمِلْنَهَا‭ ‬وَأَشْفَقْنَ‭ ‬مِنْهَا‭ ‬وَحَمَلَهَا‭ ‬الإنسان‭ ‬إنه‭ ‬كَانَ‭ ‬ظَلُومًا‭ ‬جَهُولًا‭). ‬[الأحزاب‭: ‬73]‭ ‬والمعنى‭: ‬إنا‭ ‬عرضنا‭ ‬التكاليف‭ ‬كلها‭ ‬من‭ ‬فرائض‭ ‬وطاعات‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأجرام‭ ‬العظام،‭ ‬فلم‭ ‬تطقها‭ ‬وأبت‭ ‬تحمل‭ ‬مسؤوليتها‭ ‬وخافت‭ ‬من‭ ‬حملها،‭ ‬لو‭ ‬فرض‭ ‬أنها‭ ‬ذات‭ ‬شعور‭ ‬وإدراك‭ ‬ولكن‭ ‬كُلف‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬فتحملها‭ ‬مع‭ ‬ضعفه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ظلوم‭ ‬لنفسه‭ ‬جهول‭ ‬القدر‭ ‬مما‭ ‬تحمله‭ (‬1‭) (‬التفسير‭ ‬المنير‭ ‬الجزء‭ ‬22‭ ‬صفحة‭ ‬451‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭).‬

روى‭ ‬الإمام‭ ‬أحمد‭ ‬عن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬عمر‭ ‬أن‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬قال‭: ‬‮«‬أربعٌ‭ ‬إذا‭ ‬كُنَّ‭ ‬فيك‭ ‬فلا‭ ‬عليك‭ ‬ما‭ ‬فاتك‭ ‬من‭ ‬الدُّنيا‭ ‬حفظُ‭ ‬أمانةٍ‭ ‬وصدقُ‭ ‬حديثٍ‭ ‬وحسنُ‭ ‬خُلقٍ‭ ‬وعِفَّةٌ‭ ‬طُعمةٍ‮»‬‭(‬3‭). ‬ومن‭ ‬العلماء‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الآية‭ ‬من‭ ‬المجاز‭ ‬أو‭ ‬ضرب‭ ‬مثل‭.‬

وسواء‭ ‬أكان‭ ‬العرض‭ ‬حقيقة‭ ‬أم‭ ‬مجازًا‭ ‬وضرب‭ ‬مثل‭ ‬فالمقصود‭ ‬من‭ ‬الآية‭ ‬بيان‭ ‬عظمة‭ ‬التكاليف‭ ‬وثقلها‭ ‬وتنبيه‭ ‬الإنسان‭ ‬لخطورة‭ ‬المسؤولية‭ ‬عنها‭ ‬فلا‭ ‬يفرط‭ ‬فيها‭ ‬وهو‭ ‬بين‭ ‬خيارين‭ ‬إما‭ ‬العصيان‭ ‬فالعذاب‭ ‬وإما‭ ‬طاعته‭ ‬فالثواب‭ ‬والله‭ ‬غفور‭ ‬رحيم‭. (‬المسند‭ (‬6652‭) ‬وقال‭ ‬الشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬شاكر‭ ‬اسناده‭ ‬صحيح‭). ‬

أما‭ ‬التكاليف‭ ‬الجبرية‭ ‬القائمة‭ ‬بالأكوان‭ ‬كافة‭ ‬فليس‭ ‬وراءها‭ ‬تبعة‭ ‬لأن‭ ‬الجبر‭ ‬هو‭ ‬إنابة‭ ‬فطرية‭ ‬في‭ ‬الكائن‭ ‬فلا‭ ‬يخشى‭ ‬منه‭ ‬أي‭ ‬إعراض‭ ‬أو‭ ‬تقصير‭ ‬في‭ ‬حقها‭. ‬بل‭ ‬يأتيها‭ ‬طائعًا‭ ‬مختارًا‭ ‬فرحًا‭ ‬بها‭ ‬وهذا‭ ‬يفسره‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭:‬‮ ‬‭(‬ثُمَّ‭ ‬اسْتَوَى‭ ‬إِلَى‭ ‬السَّمَاء‭ ‬وَهِيَ‭ ‬دُخَانٌ‭ ‬فَقَالَ‭ ‬لَهَا‭ ‬وَلِلْأَرْضِ‭ ‬اِئْتِيَا‭ ‬طَوْعاً‭ ‬أَوْ‭ ‬كَرْهاً‭ ‬قَالَتَا‭ ‬أَتَيْنَا‭ ‬طَائعِينَ‭ (‬41‭/‬فصلت‭ /‬11‭.‬

ومن‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬فالأمانة‭ ‬أمرها‭ ‬خطير‭ ‬وشأنها‭ ‬عظيم،‭ ‬فينبغي‭ ‬لهذا‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬يملك‭ ‬حُرية‭ ‬الإرادة‭ ‬في‭ ‬الأخذ‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬الإهمال‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬يكونا‭ ‬مطيعًا‭ ‬مقبلًا‭ ‬عليها‭ ‬حفيًا‭ ‬بها‭ ‬مقدرًا‭ ‬لنتائجها‭ ‬الكبيرة‭ ‬المباركة‭ ‬التي‭ ‬تحصل‭ ‬له‭ ‬بسبب‭ ‬الإقبال‭ ‬عليها‭ ‬والأخذ‭ ‬بها‭.‬

نعم‭.. ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعرض‭ ‬عنها‭ ‬بحكم‭ ‬حُرية‭ ‬الإرادة‭ ‬المختارة،‭ ‬هذه‭ ‬الإرادة‭ ‬الجزئية‭ ‬التي‭ ‬جعلها‭ ‬الله‭ ‬لامتحان‭ ‬عباده‭ ‬واختبارهم‭ ‬وهم‭ ‬صنف‭ ‬من‭ ‬الإنس‭ ‬والجن‭.‬‮ ‬

وفي‭ ‬شأن‭ ‬الفريقين‭ ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬تبارك‭ ‬وتعالى‭:‬‮ ‬‭(‬أَلَمْ‭ ‬تَرَ‭ ‬أَنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬يَسْجُدُ‭ ‬لَهُ‭ ‬مَن‭ ‬فِي‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَمَن‭ ‬فِي‭ ‬الْأَرْضِ‭ ‬وَالشَّمْسُ‭ ‬وَالْقَمَرُ‭ ‬وَالنُّجُومُ‭ ‬وَالْجِبَالُ‭ ‬وَالشَّجَرُ‭ ‬وَالدَّوَابُّ‭ ‬وَكَثِيرٌ‭ ‬مِّنَ‭ ‬النَّاسِ‭ ‬وَكَثِيرٌ‭ ‬حَقَّ‭ ‬عَلَيْهِ‭ ‬الْعَذَابُ‭ ‬وَمَن‭ ‬يُهِنِ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬فَمَا‭ ‬لَهُ‭ ‬مِن‭ ‬مُّكْرِمٍ‭ ‬ۚ‭ ‬إِنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬يَفْعَلُ‭ ‬مَا‭ ‬يَشَاءُ‭). ‬‏[22‭ /‬الحج‭/‬18‭. ‬

ويقول‭ ‬تعالى‭: (‬وَلَقَدْ‭ ‬ذَرَأْنَا‭ ‬لِجَهَنَّمَ‭ ‬كَثِيرًا‭ ‬مِّنَ‭ ‬الْجِنِّ‭ ‬وَالْإِنسِ‭ ‬لَهُمْ‭ ‬قُلُوبٌ‭ ‬لَّا‭ ‬يَفْقَهُونَ‭ ‬بِهَا‭ ‬وَلَهُمْ‭ ‬أَعْيُنٌ‭ ‬لَّا‭ ‬يُبْصِرُونَ‭ ‬بِهَا‭ ‬وَلَهُمْ‭ ‬آذَانٌ‭ ‬لَّا‭ ‬يَسْمَعُونَ‭ ‬بِهَا‭ ‬أُولَئِكَ‭ ‬كَالْأَنْعَامِ‭ ‬بَلْ‭ ‬هُمْ‭ ‬أَضَلُّ‭ ‬أُولَئِكَ‭ ‬هُمُ‭ ‬الْغَافِلُونَ‭). ‬[7‭ /‬الأعراف‭ /‬179‭. ‬

‭ ‬فأنت‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬الأكوان‭ ‬بأجرامها‭ ‬وكائناتها‭ ‬يسيرها‮ ‬الجبر‭ ‬الإلهي،‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬منحوا‭ ‬حُرية‭ ‬الإرادة‭ ‬لذلك‭ ‬ذكر‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬أطاع‭ ‬وانقاد‭ ‬وآمن‭ ‬وأتمن‭ ‬وأدركه‭ ‬الرشد‭ ‬الخير‭ ‬المبارك‭. ‬وهؤلاء‭ ‬كثير‭.‬

وكثير‭ ‬أبت‭ ‬نفوسهم‭ ‬إلا‭ ‬غرورًا‭ ‬وعصينًا‭ ‬وسيرًا‭ ‬وراء‭ ‬أهوائهم‭ ‬وشياطينهم‭. ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬على‭ ‬المطيعين‭ ‬كثيرًا‭ ‬مع‭ ‬أنهم‭ ‬الأقل‭ ‬تمجيدًا‭ ‬لهم‭ ‬وتنويهًا‭ ‬بشأنهم‭ ‬وإعلانًا‭ ‬عن‭ ‬قبول‭ ‬أعمالهم‭ ‬وإقبالهم‭ ‬على‭ ‬ربهم‭.‬‮ ‬

‭ ‬وهذه‭ ‬الآية‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬بعباده‭ ‬الصالحين‭ ‬ورفع‭ ‬قدرهم‭ ‬وإشعارهم‭ ‬بأن‭ ‬لهم‭ ‬الحسنى‭ ‬وزيادة‭ ‬وإن‭ ‬قلوا‭ ‬في‭ ‬أعين‭ ‬الناس‭ ‬فهم‭ ‬عنده‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭ ‬كثير‭.‬

ولذلك‭ ‬لا‭ ‬مناقضة‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الآية‭ ‬وقوله‭ ‬تعالى‭:‬‮ ‬‭(‬وَإِن‭ ‬تُطِعْ‭ ‬أَكْثَرَ‭ ‬مَن‭ ‬فِي‭ ‬الْأَرْضِ‭ ‬يُضِلُّوكَ‭ ‬عَن‭ ‬سَبِيلِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬ۚ‭ ‬إِن‭ ‬يَتَّبِعُونَ‭ ‬إِلَّا‭ ‬الظَّنَّ‭ ‬وَإِنْ‭ ‬هُمْ‭ ‬إِلَّا‭ ‬يَخْرُصُونَ‮»‬‭.‬[6‭/‬الأنعام‭/‬116‭.‬

وقوله‭: (‬وَمَا‭ ‬وَجَدْنَا‭ ‬لِأَكْثَرِهِم‭ ‬مِّنْ‭ ‬عهدۢ‭ ‬وَإِن‭ ‬وجدنآ‭ ‬أَكْثَرَهُمْ‭ ‬لَفَسِقِينَ‭).‬

7‭/‬الأعراف‭/‬102]‭. ‬

لأن‭ ‬المقام‭ ‬هنا‭ ‬لبيان‭ ‬الفريقين‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الله‭ ‬الأزلي‭.‬

نسأل‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يجعلنا‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الإحسان‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬الأمانات‭ ‬التي‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬الله‭ ‬والتي‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬خلق‭ ‬الله‭. ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا