ويصل بنا الحديث عن النباتات الزهرية إلى تلك المجموعة المفترسة واللاحمة، والافتراس كما نعلم هو علاقة حيوية يجهز فيها كائن حي مفترس على كائن حي آخر (فريسة) ويتغذى عليه، وهذا السلوك شائع في المملكة الحيوانية ولكن ليس من الشائع أن يفترس النبات الحيوان ويقتنصه ويتغذى على محتوياته، فنحن تعودنا أن نرى الإنسان والحيوان يفعل ذلك، فالحيوان مزود بالمخالب والأنياب والفكوك القوية، والإنسان يصنع الأدوات لصيد الحيوان وتقطيعه وطبخه والتغذية عليه، ولكن من العجيب أن نرى ورقة النبات الرقيقة اللطيفة الجميلة التي هيأها الله تعالى لتكون زهرة جميلة مختلفة الأشكال والألوان تجذب الإنسان والحيوان، ويحولها مرة إلى شوكة قوية تدافع عن النبات، وتتحول إلى معلاق يتعلق بها النبات علي الجدران والعرائش، ومرة أخرى تخزن الغذاء، وفي النباتات المفترسة تتحول إلى معدة وجهاز لقنص الحيوان ليتغذى على النبات، علاوة على وظيفتها المعتادة في القيام بعملية البناء الضوئي وتثبيت الطاقة الضوئية، وشطر ثاني أكسيد الكربون وتثبيته لبناء المواد الغذائية، وشطر الماء وتثبيت هيدروجينه وإطلاق أكسيجينه في الهواء المحيط بالنبات، فسبحان الخالق المقدر العليم (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه (50).
ففي نيات القدر أو الجرة (Nepenthes) تتحول الورقة إلى شكل جرة أو قدر له غطاء عمقه 30 سم في بعض الأنواع وعرضه 12 سم بحيث يسمح بدخول واقتناص الحشرات الكبيرة وبعض الزواحف والبرمائيات والطيور، وللنبات ألوان زاهية ورائحة زكية للجذب، وبداخله سائل حارق هاضم، وكل الطرق والتراكيب تهيأت لإغراء الفريسة واقتناصها، فقمة القدر متدحرجة للداخل، فكل شيء يسمح للمرور في اتجاه الداخل، ويحول دون المرور للخارج، والجدار الداخلي مغطى بزوائد وحراشيف زلقة شمعية الملمس، وبعض الزوائد مدلاه للداخل كالحبال الهابطة إلى الوادي من أعلى الجبل، وفي قاع القدر بعض الماء المتجمع مع إفرازات الورقة وماء المطر والمخلوط بالإنزيمات الهاضمة للبروتين والكاوية للفريسة التي تفرزها مجموعة كبيرة من الغدد الداخلية عددها يصل إلى ستة آلاف غدة في السنتيمتر المربع، وبعد وقوع الفريسة في السائل يغلق الغطاء عليها، وتبدأ عملية القتل والتحلل والهضم والامتصاص والتمثيل الغذائي للفريسة.
إنه التقدير والابداع والعلم والتقنية العالية في الخلق في هذا النبات الضعيف، فهل يعقل أن كل هذه التراكيب وهذه المخططات وجدت بالمصادفة والعشوائية كما يدعي الدهريون الماديون أصحاب نظرية المصادفة والعشوائية في الخلق؟!
إنها خطة محكمة لجذب الفريسة وإغرائها وصيدها والدخول بها إلى قدر الطبخ والتحلل للحيوان واستخلاص المواد النيتروجينية من جسم الفريسة ليعوض النبات بهذا المحتوى على النقص في نيتروجين البيئة المحيطة بالنبات، إنه جهاز تسميد نيتروجيني معجز ومتقن أوجده الله تعالى رحمة بهذا النبات الضعيف.
أما نبات الفخ أو الديونيا (Dionaea) فقد تحول نصل الورقة إلى صمامين متمفصلين بطول العرق الوسطي، وفي حوافهما أشواك مدببة قوية متبادلة الوضع بين الفصين، وعلى السطح العلوي للورقة زوائد استشعار باللمس، فعندما تلمس الفريسة ينطبق المفصلان في سرعة خاطفة على الفريسة كما ينطبق الفخ على الحيوان عند صيده، وتحبسها في الفخ ثم تنزل عليها العصارات الهاضمة والمحللة وتمتص الورقة العناصر النيتروجينية من جسم الفريسة وبعد تمام امتصاص عصارة الحيوان تفتح الورقة الفخ والمصراعين وتلقي بنفايات الحيوان أسفل النبات حيث تجد البكتيريا المحللة، والفطريات والديدان والنمل رزقها في هذه البقايا، إنها عملية تدوير للحيوان، وهكذا تدور دورة الحياة في عملية افتراس جديدة.
هذا النبات يفترس الفراشات، والصراصير والعصافير والضفادع الصغيرة والزواحف ومن العجيب أن النبات يستطيع تمييز الصيد القابل للتحلل والهضم والامتصاص وغير القابل للتحلل بإنزيماته، فيمسك بالقابلة للتحلل ويطرد غير القابلة للتحلل والهضم والامتصاص في الحال.
وتوجد النباتات المائية الصائدة للحيوانات السابحة في الماء بواسطة الأكياس المثانية ولكل مصيدة مثانية فتحة البواب المزودة بالملامس الاستشعارية، وعندما تلمس الفريسة تلك الملامس يفتح الباب سريعا للداخل حاملا معه الفريسة حيث تحبس إلى أن يتم قتلها وتحليلها وامتصاصها.
فمن حول ورقة النبات الرقيقة إلى مصيدة للحيوان بتقنية عالية وبجهاز هضم وتحليل وامتصاص لعناصر النيتروجين بالذات؟! ومن أنبأها وعلمها أن هذه الحيوانات تحتوي على عنصر النيتروجين ومركبات النيتروجين الذي يحتاجه النبات في بيئته الفقيرة بهذا العنصر المهم والضروري لبناء سيتوبلازم النبات وعُضيّاته النباتية فيه؟!
هذه النباتات المفترسة إن لم تتحصل على النيتروجين الضروري لحياتهما مرضت وماتت وتلاشت من على الأرض. من زودها بالإنزيمات المحللة والهاضمة للمركبات النيتروجينية، كل النباتات الزهرية تتحصل على احتياجاتها النيتروجينية من البيئة الأرضية والعقد الجذرية المثبتة للنيتروجين الجوي.
المصادفة توقع الحيوان في مصيدة، ولكنها لا تهيئ النبات للامساك بالحيوان ولا تهيئ الجهاز الإنزيمي لهضم الحيوان.
إن أراد الإنسان صناعة إنزيم لهضم البروتين فإنه يحتاج للخبراء والمختبرات والمصانع والبحوث العلمية والأجهزة والمواد الكيماوية، فأين المصانع التي أجرى فيها النبات المفترس بحوثه؟! وأين الخبراء ذوو العلم الدقيق ليقدروا له ذلك؟!
لا إجابة علمية عقلية شرعية شافية سوى أن الخالق سبحانه وتعالى خلق هذه النباتات المفترسة وأودع فيها بعلمه وقدرته ليعلم الإنسان أن الله تعالى على كل شيء قدير، فسبحان الخالق العليم المبدع المقدر. والحمد لله رب العالمين خالق الخلق أجمعين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك