بقلم: عاطف الصبيحي
نحن قاب قوسين أو أدنى من شهر رمضان، شهر الله، سيد الشهور، الزائر السنوي الذي يحل علينا، حاملاً آمالا عريضة، لكل من عضه الدهر وأوجعه، لكل من عاندته ظروفه وقست عليه، لكل من ضاقت عليه الدنيا وصبر، لكل من خانته صحته وقواه الجسدية وأقعدته عن العمل والكسب، لكل من تفقد القدر والده وأصبح يتيماً بلا مُعيل، وسط كل هذه الأجواء يأتي شهر الله حاملاً البشائر لكل هؤلاء.
وكلما هلت تباشير هذا الشهر تهجم علي ذكريات ما قرأته عن أشج بني أمية، الخليفة الخامس، عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، لا أستطيع الفكاك من هذه الذكرى العطرة، ذكرى جديرة بأن تكون منهج حياة لكل من آمن بالله رباً وبمحمد نبياً ورسولاً، وبالقرآن كتاباً من الله خالداً، جملة من الذكريات الأخلاقية، فلست بصدد صلاته رضي الله عنه، ولا صيامه، إنما بصدد التغني بمنسوب الإحساس الذي يملكه تجاه الناس عموماً، وفقيرهم خصوصاً.
شعور بالمسؤولية عميق يجثم على فؤاد هذا الرجل، ولعله لم يسبقه في رهافة هذا الحس إلا الراشدون من الخلفاء، وجده على وجه الخصوص ابن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً، شعور حلٌق به إلى فضاءات لا يصح أن يُقال بها إلا إنها فضاءات قرآنية، لم تغب عنه حتى الطيور البرية، العابرة لفضاء الدولة التي يحكمها هذا الشج الورع، فأوصى بها بقولته الشهيرة الخالدة: «انثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يُقال أن طيراً جاع في بلاد المسلمين» شعوره بثقل المسؤولية تعدى البشر إلى الطير العابر غير المُقيم في سماء المنطقة الحاكم عليها والتي سوف يُسأل عنها.
لم تفارقني هذه العبارة منذ أن وقعت عليها عيني في أحد المراجع، ولو لم أسمع بغيرها لكفتني كمسلم، فمن البديهي أنه وبالرغم من قِصر مدة حكمه أنه كفى الناس مؤمنهم وكافرهم مؤونة العيش وهم الضرورات، فطار ببصره يتابع الطير ويتفقد شأنه، وذهبت سُنة مُتبعة حتى اليوم في القرى التركية، حيث يحملون القمح إلى رؤوس الجبال في موسم الشتاء لتأمين طعام الطيور.
فعلى أعتاب هذا الشهر الكريم يعيش بين أظهرنا من يرنو بعينه إلينا لنكرمه في هذا الشهر، لنكفيه في هذا الشهر، لنقر عينه في هذا الشهر، لنحفظ ماء وجهه في هذا الشهر، فهل نحن مقتدون بابن عبد العزيز، وفاعلون جزءا مما فعل؟
شهر حلقات الرحمة فيه آخذه بعضها بناصية بعض مكونة دائرة متكاملة من الرحمة والمودة والتآلف، تنطلق من البيت وتآلف الأسرة الواحدة على مائدة واحدة، ثم تبعد قليلاً لتدخل مربع الأرحام، من الأقرب فالأبعد، الوالدين والأخوة والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت إلى آخر الحلقة الطيبة الكريمة من الأرحام، فالأرحام خاصة من النساء وإن كن مستكفيات بذاتهن، وميسورات مادياً إلا أن عيونهن ترنو إلى سؤال أهلهن عنهن، وتُثلج صدورهن بزيارتهن أو دعوتهن لموائد الإفطار.
قبس من فقه عمر بن عبد العزيز كفيل بأن يجعله شهراً مباركاً بالمعنى القرآني للكلمة، بالفقه العمري للكلمة، وليس بالمعنى الشكلي الظاهري للكلمة، في هذا الشهر تحديداً وغيره من الشهور لا تغني الشكليات ولا تسمن من جوع، رحم الله ابن عبد العزيز الذي فقه كتاب الله على خير ما يكون الفقه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك