بقلم/ أ. د. أمين عبد اللطيف المليجي
نواصل حديثنا حول موضوع بشرية الرسل وقدسيتهم، في المقالة الماضية تكلمنا عن لقاء سيدنا موسى عليه السلام بالرجل الصالح الخضر. وكان اللقاء بأمر من الله سبحانه حتى يرى موسى ويسمع ممن هو أعلم منه، وهذا لأن الله سبحانه قد أراد أن يعلم موسى عليه السلام درسا في التواضع، حتى ولو كنت أعلم أهل الأرض، ومنه نتعلم أيضا أن من ظن أنه عالم وملم بكل شيء، فقد جهل ولا فائدة من ما تعلمه.
فعندما تم اللقاء بأمر من الله بين الرجل الصالح وسيدنا موسى عليه السلام عند مجمع البحرين، كما حكى الحق سبحانه في سورة الكهف، (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أرَأيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أنسانيه إلَّا الشَّيْطَانُ أنْ أذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65).
مقام العبودية لله هو أعلى المراتب، ولذلك وصف الحق به عبده الصالح، ومن أهم صفات أهل العلم أن يكونوا رحماء، وتلك الرحمة تمنع صاحبها من التكبر بعلمه على الناس، ولذلك قال الحق (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا)، وهذا أول درس لأهل العلم، الرحمة وهي ما نحتاج إليها اليوم، بعد أن تكالبنا على الدنيا وأنهكتنا بشهواتها، نسأل الله العفو والعافية،
ثم يأتي مقام العلم، ويأتي العلم من الله لكل من يجتهد في طلبه، مهما كانت عقيدته أو جنسيته، فالعلم لا وطن له، فوطنه الجد والاجتهاد، وطالب العلم لابد وأن يكون مثابرا مجتهدا، متأدبا في طلب العلم، وهذا هو الدرس الثاني لسيدنا موسى، ومنه نتعلم التأدب في طلب العلم، فقال الحق مؤكدا ذلك على لسان سيدنا موسى، (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)، وهذا التأدب أكده الحق عندما ذكر اسم «موسى» منكرا ومجردا من أي لقب، فهو الرسول النبي ومن أولى العزم من الرسل، ولكن في طلب العلم لا توجد ألقاب، حتى ولو كنت رسولا أو كنت ملكا أو أميرا. فطلب بسؤال فيه أدب وتواضع ورجاء من المعلم أن يقبل، فقال «هَلْ أتَّبِعُكَ»، ونسي أنه الرسول النبي الذي يكلم الله وليس بينه وبين الله واسطة، فلا تكن متعاليا متكبرا وأنت تطلب العلم،
وقد روى أن أحد خلفاء المسلمين وهو هارون الرشيد، وما أدراك ما هارون الرشيد، كان العصر الذهبي للأمة الإسلامية في عصره، علما وخلقا وقوة، جاء بمعلم لأولاده الأمين والمأمون، وقد أوصى هارون الرشيد المعلم قائلًا: أقرئهما القرآن، وعرفهما الأخبار، وروهما الأشعار، وعلمهما السنن، وبصرهما بمواقع الكلام وبدئه، وامنعهما من الضحك إلا في أوقاته، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيدهما إياها.
وكان يتابع حالهم مع معلمهم، فوجدهم يفعلون أشياء لا يفعلونها معه، منها مثلا أنهم في ذات يوم أنهى المعلم الدرس ونهض ليخرج، فتسابق الأمين والمأمون من منهما سيحمل حذاء المعلم، وتشاجرا ثم اتفقا على أن يحمل كل منهما فردة من الحذاء، وتصادف وأن رأى هارون الرشيد هذا الموقف، فتعجب من حسن أدبهما مع المعلم، وأثنى على ذلك.
العلم هو طريق الأمم للنهوض والتقدم، وسيظل الإنسان يتعلم مهما بلغ من درجات علمية رفيعة، وصفات أهل العلم التواضع والتأدب في طلب العلم، ولنتذكر دائما كما ذكر الحق في سورة يوسف (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)). ونواصل الحديث في المقالة القادمة بمشيئة الله.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك