على الرغم من تغير مفهوم القوة في ظل تأثير التكنولوجيا الحديثة إذ لم تعد فعالية الجيوش تقاس بعددها إلا أن الأمر يبدو مختلفا عند إجراء مقارنات بين القوى الكبرى وضمن هذا السياق أعلنت الصين في الخامس من مارس 2023 استراتيجية شاملة لتحديث الجيش الصيني خلال ذلك العام وذلك من خلال ثلاثة مؤشرات الأول: زيادة الميزانية العسكرية لتصل إلى 7,2% وهي التي تجيء في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الإنفاق العسكري بيد أنها تجيء في المركز الأول من حيث عدد الجيش الذي يبلغ مليونين و35ألف فرد، والثاني: في الوقت الذي تمتلك فيه الصين رؤوسا نووية وحاملات طائرات أقل من الولايات المتحدة فإنها تسعى في الوقت ذاته إلى تعزيز قواتها في هذين المجالين من دون وجود أرقام مؤكدة بشأنهما، والثالث: وجود تفوق لدى الصين في عدد القطع البحرية مقارنة بما لدى الولايات المتحدة بغض النظر عن نوعية تلك القطع لدى الجانبين، فما دلالات تلك الخطة وتوقيتها؟ والأهم تأثيرها في طبيعة النظام العالمي عموماً ومنطقة الشرق الأوسط خاصة؟
الردع وتوازن القوى مبدآن حكما تفاعلات العلاقات الدولية والإقليمية عبر حقب زمنية مختلفة بل إنهما كان موضوعين استحوذا على جل اهتمام منظري العلاقات الدولية ضمن نقاش علمي مستفيض، فكلاهما يرتبط بالآخر فالردع في مفهومه البسيط هو إرسال رسالة إلى الطرف الآخر بأن إقدامه على فعل ما سوف يكلفه من الخسائر ما يفوق المكاسب التي يتوقعها، وتتنوع مضامين تلك الرسالة ما بين زيادة حجم القوة أو إجراء مناورات من آن لآخر في مناطق يرى طرف ما أنها تمثل نفوذاً لمصالحه الحيوية، بينما يقصد بتوازن القوى هو «عدم امتلاك أي دولة أو مجموعة من الدول في منطقة ما قوة كافية للهيمنة وإجبار الدول الأخرى في تلك المنطقة على الرضوخ لإرادتها»، ويوجد توازن قوى بسيط أي بين دولتين، وآخر معقد أي بين ثلاث دول أو أكثر، ووفقاً لمقولات أنصار النظرية الواقعية فإن هدف تحقيق توازن القوى يظل دائماً أولوية للدول إلا أنه يؤدي إلى ظهور تكتل مقاوم للدولة المهيمنة أو تلك التي تسعى إلى الهيمنة.
ووفقاً لهذين المبدأين يمكن تفسير السياسات العسكرية الجديدة للصين، صحيح أنه بمقياس القوة والقدرة على حسم الأزمات والانتشار العسكري في الخارج تظل الولايات المتحدة على قمة النظام العالمي حتى الآن بغض النظر عن مضامين استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية التي تتضمن أولويات جديدة تجاه مناطق على حساب الأخرى، إلا أن العلاقات بين القوى الكبرى يصعب تفسيرها من منظور مسار العلاقات الثنائية فحسب والتي تتشابك فيها المصالح بشكل كبير وإنما ضمن منظومة العلاقات الدولية ككل والتي تتيح فرصاً للقدرة على المناورة، فالحرب الأوكرانية مثلت مساراً استراتيجياً بالغ الأهمية للنظام الدولي وإن لم يصل إلى نهايته ولكن حسم تلك الحرب بمنطق المنتصر والمهزوم سوف يرتب تداعيات بالغة الأهمية على هيكل النظام الدولي برمته، وفي تقديري أن تأثير الاستراتيجية العسكرية الصينية الجديدة يرتبط بعاملين مهمين الأول: مسار الصراع في بحر الصين الجنوبي والذي يتخذ أشكالاً عنيفة أحياناً من خلال حوادث صدام أو سعي كل من الصين والولايات المتحدة إلى بناء تحالفات وتحالفات مضادة أحياناً أخرى، فالولايات المتحدة تدرك واقع النفوذ الصيني في تلك المنطقة بل إن ذلك كان سببا في إعلان ليون بانيتا وزير الدفاع الأمريكي عام 2012 استراتيجية دفاعية مفادها أنه بحلول عام 2020، ستعيد البحرية الأمريكية نشر قواتها من نسبة 50 للمحيط الهادي، و50 للمحيط الأطلسي إلى نسبة 60 للمحيط الهادي، مقابل 40 للمحيط الأطلسي لمواجهة القوة الصينية الصاعدة، أطلق عليها «استراتيجية الدوران»، ومن ثم فإن طبيعة تلك التحالفات وقدرتها على الحفاظ على مصالح الجانبين ستكون محدداً مهماً من محددات الصراع فيما بينهما، أما العامل الثاني: فهو الجدل المثار حول تقلص الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط مقابل زيادة النفوذ الصيني، صحيح أن زيارة الرئيس الصيني لمنطقة الخليج نهاية عام 2022 والتي تضمنت عقد ثلاث قمم صينية سعودية، وصينية خليجية، وصينية عربية كانت بهدف اقتصادي بحت وهو ما اتضح من حجم الصفقات التي تم إبرامها والتي تشير المصادر إلى أنها تجاوزت 50 مليار دولار إلا أن ذلك الدور الصيني تطور باتجاه الوساطة لإبرام اتفاق بين المملكة العربية وإيران في العاشر من مارس 2023 لتطبيع العلاقات بين الجانبين.
ومع أهمية العاملين السابقين تؤكد خبرة العلاقات الدولية سواء خلال حقبة الحرب الباردة أو ما بعدها أن التحالفات تؤدي إلى تحالفات مضادة بما يعنيه ذلك من أنه في سياق مسار العلاقات الأمريكية – الصينية من الصعب تجاهل مسار العلاقات الصينية – الروسية وما قد تسفر عنه من نقاط للاتفاق سواء ضمن مناطق نفوذ الولايات المتحدة والدول الغربية أو ضمن العمل في المنظمات الدولية.
ربما نحتاج إلى بعض الوقت من أجل قياس تحولات القوة في النظام العالمي لأنه ببساطة التغير في هيكل ذلك النظام لم يحدث سوى في أعقاب مواجهات كبرى، إلا أنه في ظل استبعاد حدوث مواجهات عسكرية كبرى حتى مع حدوث بعض الصدامات العسكرية المباشرة والأمثلة على ذلك كثيرة فإنه في الوقت ذاته لابد من الأخذ بالاعتبار ثلاثة أمور مهمة، الأول: تشابك المصالح الاقتصادية يظل له تأثير في المسار السياسي والأمني بشكل كبير، فالصين ليست لديها مصلحة في انهيار النظام الرأسمالي حتى وإن رغبت في هيكل جديد للنظام الدولي، والثاني: ما سوف تسفر عنه حالة المخاض في تحولات النظام العالمي الراهن بغض النظر عن المدى الزمني اللازم لذلك سوف يدفع الباحثين إلى إعادة النظر في تصوراتهم عن هيكل ذلك النظام والذي لطالما توافقوا على أنه يتكون من قوى دولية تقود النظام وهي الولايات المتحدة وحلف الناتو وقوى دولية كبرى ولكن ليس لها تأثير كبير على ذلك النظام وهي روسيا والصين وثالثة تعددية تتمثل في القوى المتوسطة والصغرى وتتوزع في مناطق مختلفة من العالم.
وعود على ذي بدء لم تكن الاستراتيجية العسكرية الصينية أمراً مفاجئاً بل جاءت ضمن مساعي كل القوى الكبرى في العالم لتحديث قواتها المسلحة بل والتركيز على نوعية ذلك التسلح سواء من خلال استراتيجيات منفصلة للأمن البحري أو الأمن السيبراني، ومع أهمية تلك الاستراتيجيات لكونها تظل الإطار الاستراتيجي لعمل الدول خلال السنوات القادمة على الأقل على المدى المنظور فإن التساؤل الذي يظل بلا إجابة قاطعة هل تحقق مسارات التسلح المتزايدة هدف الردع أم أنها ستكون مقدمة لمواجهات عسكرية: أين ومتى؟
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك