يمكن القول إن أحد المحطات الرئيسية نحو مكافحة التغير المناخي بدأت في عام 1988م حين قدم جيمس هانسن – مدير معهد جودارد لدراسات الفضاء التابع لناسا – شهادته أمام الكونجرس الأمريكي على أن درجة حرارة الأرض آخذة في الازدياد، وأن السبب الرئيسي لذلك هم البشر. إن هذه الشهادة المبنية على شواهد وأدلة علمية، والتي جعلت من جيمس أشهر عالم مناخ في العالم، لم تكن اكتشافا غير متوقع، بل كانت دليلا دامغاً على تأثير الاحتباس الحراري على الحياة في كوكبنا. وكان من الواجب البدء منذ تلك اللحظة في وضع الخطط والبرامج العملية، والتي تضمن التعاون الدولي لمواجهة هذا الخطر القادم بكل السبل الممكنة.
إلا أن المأمول لم يتحقق، ولهذا فإن الخبراء يعتقدون أننا لو كنا اتخذنا الخطوات اللازمة في ذلك الوقت لكنا استطعنا إزالة الكربون من دولنا بمعدل حوالي 2% سنويا عن طريق خلق توجه عالمي إلى تقليل الاستثمار في الوقود الأحفوري، ودعم الصناعات الصديقة للبيئة بشكل أكبر. ولذلك فعلى الرغم من تبني العديد من الدول لهدف الوصول إلى الحياد الصفري الكربوني، إلا أنه يعد توجها حديثا نسبيا. فأول دولة ذات اقتصاد كبير وضعت تشريعات داعمة للحياد الصفري كانت المملكة المتحدة في عام 2019م. يضاف إلى ذلك، إلى أن فرضية الحياد الصفري الكربوني تنطلق على أساس أن التنمية الاقتصادية لابد من أن يصاحبها انبعاثات ضارة، وأن الحل للحد منها يأتي عن طريق خفض انبعاثات الغازات الدفيئة إلى أدنى مستوى ممكن مع إعادة امتصاص أي انبعاثات متبقية من الغلاف الجوي بطرق طبيعية كزيادة المساحات الخضراء أو باستخدام التكنولوجيا كاحتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه. بمعنى آخر، هذه الفرضية تتضمن أنه سيكون هناك انبعاثات ضارة ولابد، أن الحل لهذه المعضلة هو في التوازن بين تقليل الانبعاثات وإعادة امتصاصها بكل الطرق الممكنة، وبهذا فهي تقدم حلاً واقعياً للتعامل مع هذه المشكلة البيئية.
وعلى الرغم من بساطة الفكرة المقترحة للوصول إلى الحياد الصفري الكربوني، إلا أن العمل لأجل تحقيقها لا يخلو من تحديات وتعقيدات. ولعل التكلفة المالية لمثل هذا التحول ستكون التحدي الأبرز، ويظهر ذلك في استعمال العديد من الدول للفحم في محطات توليد الكهرباء بسبب أن كلفته أقل من الغاز الطبيعي على الرغم من كونه أكثر ضررا من الناحية البيئية رغم أن هذه الدول ملتزمة بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية المعنية بحماية البيئة. ومن الصعوبات كذلك كون فكرة التحول مرتبطة بالعديد من القطاعات، وأن التنسيق فيما بينها لأجل وضع سياسات واستراتيجيات سيكون من الصعوبة بمكان. بل قد يكون التنسيق داخل القطاع الواحد غير ممكن، كون أن الشركات والمؤسسات تنظر إلى مصلحتها الفردية من غير الالتفات بشكل كبير للمصلحة الوطنية العليا. يضاف إلى ما سبق، إلى أن تطبيقات احتجاز ثاني أكسيد الكربون وتخزينه إلى الآن لم تصل إلى المستوى الذي يمكننا من الاعتماد عليها بشكل كبير، كون أن هذه التطبيقات مازالت قيد الدراسة والتطوير.
لكن مجرد التزام الدول بالحياد الصفري الكربوني يحمل في طياته دافعاً ورؤية وطنية لجعل السياسات والاستثمارات متوجهة نحو طريق محاربة التغير المناخي. ويسهم ذلك في زيادة الثقة في الأسواق الوطنية، حيث إن مثل هذه التوجهات تطمئن المستثمرين أن الدولة ستكون داعمة وشريكا أساسيا في دعم الاستثمارات والمبادرات الصديقة للبيئة، وبالتالي خلق شراكة حقيقية بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص. ولعل ما يميز التوجه إلى الحياد الصفري كونه يعتمد في بعض جوانبه على البحث العلمي الذي ينبغي أن يسهم في خفض الانبعاثات وامتصاص الكربون. وهو أمر جدير بالتأمل، حيث إن الثورة الصناعية والعلمية كانت أحد أسباب ارتفاع معدلات التلوث في عالمنا المعاصر بما صاحبها من نمو صناعي واقتصادي منقطع النظير، وأن الحل لهذه المعضلة قد يكمن في استخدام نفس هذه المنظومة، وكأن الحل لابد أن يولد من رحم المشكلة ذاتها. فالتقدم العلمي والمعرفي في تطوير صناعة الطاقة المتجددة، ورفع كفاءة المنظومات الصناعية، وتطوير الدراسات والتطبيقات في مجال الكربون قد يكون هو أحد الحلول الكبرى التي نرتكز عليها لتحقيق الأهداف المنشودة في خفض انبعاثات الكربون.
وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من كون أهداف الحياد الصفري الكربوني طموحة جداً، إلا أنها ستكون مجرد خطوة أساسية من خطوات عديدة قادمة لمواجهة تداعيات التغير المناخي. ولهذا فإن الاعتقاد أنها قد تكون الحل السحري لكل مشاكلنا القادمة لن يكون صحيحاً، فما زلنا بحاجة إلى حلول أكثر جرأة وجدية في معالجة قضايانا البيئية المعقدة. فعلى سبيل المثال، فإن الهندسة الجيولوجية الشمسية أو ما تعرف بهندسة «المناخ» بدأت تطرح في الأوساط العلمية كأحد الحلول الممكنة، والتي سوف تسهم في تبريد الكرة الأرضية بشكل اصطناعي كتقنية استمطار السحب أو رش المياه إلى غيوم القطب الشمالي بغية حرف أشعة الشمس عنها من أجل الحفاظ على الجليد الذائب. وعلى الرغم من المخاطر الكبيرة المصاحبة لهذا الطرح، إلا أن الأكاديميات الوطنية الأمريكية للعلوم أوصت بتخصيص ما يصل إلى 200 مليون دولار أمريكي على مدى السنوات الخمس المقبلة لاستكشاف كيفية نشر الهندسة الجيولوجية وتنظيمها. ولهذا فإن الرحلة نحو مستقبل خال من الكربون لن تكون سهلة، بل ستكون رحلة مليئة بالإخفاقات والنجاحات، ولكنها ولا شك طريق لابد منه، ليس فقط لجيلنا الحالي، بل لأجيالنا القادمة.
{ مدير برنامج الطاقة والبيئة
مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك