في إطار التحولات الكبيرة التي يشهدها عالم اليوم في اتجاه زعزعة نظام القطبية الأحادية الذي تتسيد فيه الولايات المتحدة الأمريكية منفردة منذ انهيار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية في بداية تسعينيات القرن الماضي، نشأت مجموعة بريكس منذ عام 2006 والتي تم تشكيلها من الدول الصاعدة ذات الاقتصادات الكبيرة والواعدة وهي روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا التي انضمت لاحقا، وكانت هذه المنظمة في أساسها استقطابا للدول الصاعدة من أجل خلق قطب اقتصادي وسياسي جديد يخرج عن المظلة الأمريكية التي تضم دول الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وغيرها من الدول الأخرى في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتعتبر عمليا مجموعة بريكس كتلة ضخمة، ومن المتوقع أن تنضم إليها دول أخرى مثل الجزائر والمملكة العربية السعودية، مما يزيد من ثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري.
وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية بدءًا من فبراير 2022 لتعلن الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي والدول التابعة لهذا القطب عن عقوبات تزيد على 7000 عقوبة اقتصادية ضد روسيا الاتحادية، مما زاد من أهمية مجموعة بريكس في مواجهة التغول الأمريكي بوجه خاص والغربي بوجه عام، لتكون هذه المنظمة مدافعة عن مصالح الدول الصاعدة خاصة والدول النامية عامة، وهي تقوم في نهاية المطاف على أساس التشجيع على فكرة القطبية الدولية سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وهذا في الحقيقة ما يبرر حالة الجنون الأمريكي وحتى الأوروبي في مواجهة روسيا الاتحادية خلال العملية العسكرية الخاصة في الدونباس بتزويد أوكرانيا بأسلحة غير محدودة وبكميات هائلة تشمل الدبابات والمدرعات والصواريخ في محاولة يائسة لهزيمة روسيا وبالتالي هزيمة منظمة بريكس وكسرها قبل أن تنضم إليها بلدان جديدة وتصبح قوة ضاربة في العالم، وخاصة أن هذه المنظمة ومنذ عام 2010 على الأقل؛ أي بعد انضمام جمهورية جنوب إفريقيا اليها تحاول مواجهة التكتلات الكبرى الأخرى مثل مجموعة 7 ومجموعة 20، ومن هنا نفهم ما الذي يحدث الآن على أرض أوكرانيا، وخصوصا أن هذه المنظمة مفتوحة اليوم لمزيد من الدول ذات الثقل الاقتصادي مثل المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية اللتين تمتلكان مقدرة استراتيجية كبيرة تعجل من انضمامهما المحتمل في المستقبل كقوة إضافية اقتصادية وجيوسياسية، وتوسعا في مواجهة التوسع الأمريكي في العالم والهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية الأمريكية.
هذا الجنون الذي نلمسه من خلال الضغط الأطلسي على روسيا الاتحادية والسعي إلى ابتزاز واستنزاف روسيا في هذه الحرب التي يبدو أن القوى الغربية تحرص على إطالتها قدر الإمكان حتى لو لعدة سنوات قادمة بما يؤدي تدريجيا إلى تآكل الاقتصاد الروسي وإضعاف قوتها العسكرية وحتى الاقتصادية والمالية، وهذا في نهاية المطاف في صلب المصلحة الأمريكية حيث بينت هذه الحرب التي مرت عليها سنة كاملة أن الرابح الأكبر منها هو الولايات المتحدة الأمريكية والمجمع العسكري الصناعي الأمريكي الذي يضم ملايين العمال والموظفين ويدخل المليارات من الدولارات لتضخ في الاقتصاد الأمريكي، في حين من الواضح أن هذه الحرب تدمر روسيا الاتحادية وتسبب لها الكوارث الاجتماعية والاقتصادية المنهكة والتي إن طالت إلى فترة أخرى، فإنها ستؤدي على الأرجح إلى ظهور تيارات قومية وربما حتى نازية وفاشيستية من غبار هذه المعركة الطاحنة بين روسيا والناتو، بما يؤدي إلى سقوط الحكومات الليبيرالية والديمقراطية وصعود محتمل لأحزاب يمينية متطرفة، وهذا سيغير وجه أوروبا والعالم في غياب أي أفق سلمي للمسألة الأوكرانية وخيار دول الناتو القائم على محاولة إطفاء الغاز الروسي بنار البنزين مثلما عبر عن ذلك رئيس وزراء المجر في وصفه لضخ دول الناتو للأسلحة الثقيلة إلى أوكرانيا.
ولعل الحديث المتصاعد اليوم عن العملة الخاصة بمنطقة بريكس والتي يجري دراستها حاليا وتجاوزت مرحلة التصور إلى مرحلة التنسيق لاتخاذ قرار بشأن إصدارها في المستقبل المنظور خلال السنوات القليلة القادمة وإذا ما نجحت دول بريكس في إصدار هذه العملة واعتمادها كعملة دولية مثل الدولار واليورو للتعاملات التجارية والاقتصادية في العالم، فإن ذلك سيكون إيذانا للحد من سطوة الدولار كعملة عالمية وتراجع سيطرته وهيمنته على الاقتصاد العالمي، وهذا ما يزيد من الغضب الأمريكي ويفسر هذا الحماس المنقطع النظير لصب الزيت على النار في المعركة الدائرة حاليا على أرض أوكرانيا بين روسيا ودول الناتو.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك