في العشرين من شهر مارس 2003 كان الحدث، حدث غزو العراق.
القوة الغازية كانت في أساسها وفي معظمها هي القوات المسلحة الأمريكية بكل فروعها وتخصصاتها في عهد الرئيس جورج بوش الابن.
التحضير للغزو ومبرراته وضروراته سياسياً وإعلامياً قامت به الولايات المتحدة، وأساس التحضير قام على أن الولايات المتحدة ترى ضرورة التعامل مع الخطر الذي يمثله العراق، والأسلحة المدمرة والنوعية التي يمتلكها وخطرها على السلم العالمي وعلى أوضاع وشعوب المنطقة بالدرجة الأولى.
قمة وخلاصة التحضير وذروته جاءت في 5 فبراير 2003، حين ألقى كولن باول، الذي حضر الجلسة مصحوباً برئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية جورج تينيت، كلمة مطولة أمام مجلس الأمن الدولي حول أسلحة الدمار الشامل التي يملكها العراق. ولوح بأنبوب يحوي مسحوقاً أبيض (في إشارة إلى الجمرة الخبيثة)، وصور لأقمار اصطناعية، مؤكداً أن الأدلة التي قدمها لا يمكن دحضها وأنها تشير إلى أن العراق واصل خروقاته المادية لقرار مجلس الأمن 1441 (2002)، واتهم بغداد بامتلاك علاقة مع تنظيم القاعدة، مؤكداً أنه، أي العراق، لا يستحق منحه فرصة أخرى.
الغريب جداً أن الوزير المذكور وربما في صحوة ضمير متأخرة جداً كما يبدو، وبعد «خراب البصرة» بحسب المقولة الشعبية، أعلن بكل صراحة ووضوح أن كل ما قاله في المؤتمر الصحفي المذكور كان قد أعطي له جاهزاً ومسجلاً على كاسيت من القيادة السياسية العليا، وانه التزم به وعرض ما جاء فيه. وقد عبر عن ندمه على هذا الخطاب ومساهمته في الغزو، وقال: «إنه فعلاً نقطة سوداء لأنني كنت أنا الذي قدمته باسم الولايات المتحدة إلى العالم، وسيظل ذلك جزءاً من حصيلتي».
بالنتيجة، قامت القوات الأمريكية أساساً وبمشاركة محدودة من بريطانيا أيام كان توني بلير رئيساً لوزرائها، بغزو العراق مستخدمةً كل قوتها وتشكيلاتها العسكرية وأسلحتها ومعداتها، وما امتلكت من سبق الإصرار على تدمير، ومن دون أي تقليل من مقاومة الجيش العراقي والتصدي لقوات الغزو بكل ما أوتي من قوة وإمكانيات ومن إرادة وقوة صد، فقد تحقق للقوات الغازية احتلال العراق وفرض سيطرتها عليه، وتحقق لها إسقاط النظام الحاكم وإسقاط قيادته والسيطرة الأمريكية المطلقة على مقدرات العراق.
أول قرارات قيادة الغزو كانت تعيين حاكم أمريكي للعراق مطلق الصلاحية، وتصفية القيادة العراقية، ثم حل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، إضافة إلى حظر حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يحكم العراق وإلغاء مشروعيته ومشروعية الأحزاب الأخرى.
نتج عن هذا، الدفع بالبلد إلى حال من الفوضى التامة التي استمرت سنين وقعت خلالها الكثير من المصائب التي استفحلت وزادت، وانعكست أولاً على المواطن العراقي العادي ومعايشه وحرياته ودوره في إدارة أمور بلده.
فقد نُهبت آثاره وسُلبت ثرواته، وعشرات الآلاف لقوا حتفهم وملايين اضطروا إلى الهجرة والتشرد، والآلاف ذاقوا عذاب الاعتقال والتعذيب ومازال سجن أبو غريب حاضراً في الذاكرة.
وقد كانت أخطر البلاوي، انقسام المجتمع العراقي على أسس طائفية بالذات شيعية وسنية، إضافة إلى الأكراد واستقلال كل طائفة وقيادتها. وقد تجذرت هذه البلوى لتفرض حضورها على كل المستويات وفي جميع المجالات، وبذلك تم زرع بذور الفتنة الطائفية على أمل ألا ينهض العراق أبداً.
وهذه الطائفية هي ما سمحت ببروز ظاهرة مثل أبو مصعب الزرقاوي لعدد من السنين، وهي ما سمح ومهد ومكن من قيام ظاهرة أبو بكر البغدادي وإمارته التي أقامها في الموصل وجوارها.
وهي ما فرض قاعدة التقاسم والمحاصصة في أجهزة الدولة الوظيفية، بدءاً من البرلمان بين القوى والأحزاب الطائفية، وما أدى إلى مشاكل وصدامات وصلت حد الاشتباكات بين القوى الطائفية في بعض الحالات، ووصلت إلى درجة فرضت نفسها على البرلمان وأدت إلى تعطيله في بعض الأوقات.
كل ذلك وغيره فتح الباب واسعاً أمام استشراء غير مسبوق للفساد بكل أشكاله، والمالي منه بالذات، وليصل إلى المليارات، وربما التريليونات من الدولارات في المجموع، تهرب إلى بنوك العالم من دخل البلد القومي ومن قوت ناسه وأهله.
وبالمحصلة، نجحت الولايات المتحدة ولو لفترة في تنفيذ ما أسمته «الفوضى الخلاقة» وإضعاف إلى درجة الغياب لأي دور أو تأثير للعراق على المستوى القومي العربي ومكوناته، وعلى مستوى المنطقة والإقليم بشكل عام.
وهذه النتيجة، كانت حقيقة هي الهدف الأساسي لغزو العراق وليس محاربة «الإرهاب» والتخلص من الدكتاتورية، ولتنعم شعوب المنطقة بالديمقراطية كما تبجحت أمريكا في تبريرها للعدوان.
ولكن، في السنوات الأخيرة القليلة بدأت تظهر ملامح وبدايات للعراق ودوره على المستوى الإقليمي وبالذات المستوى القومي. تمثل ذلك بدايةً في التقارب الذي تمت إقامته بين العراق ومصر والأردن، وخصوصاً أنه ترك الباب مفتوحاً لانضمام دول عربية أخرى، إضافة إلى درجة حضور عراقي تتعالى وتزيد تفاعلاً وتأثيراً في الشأن العربي العام.
يبقى العراق في كل الأحوال والظروف واحداً من الدول العربية الأكثر حضوراً في النظام العربي العام، والأكثر تأثيراً في أوضاعه وظروفه.
وتبقى عيون وأفئدة أهل الوطن العربي كله مشدودة إلى العراق ترجو له كل الخير، وتتطلع بالأمل والترحيب إلى استقرار أعمق وأقوى في أوضاعه الوطنية الداخلية، وإلى دور أوسع وأكثر فعلاً وتأثيراً في الأمور والقضايا القومية وفي دعم نضالات شعوبها.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك