قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، بداية نرفع أسمى آيات التهاني والتبريكات للأمة العربية والإسلامية جمعاء بحلول شهر رمضان المبارك، ونبتهل إلى الله عز وجل أن يجعله شهر خير وبركة على مملكتنا الغالية ومن يعيش على ترابها في ظل قيادتنا الحكيمة، إن شهر رمضان يختلف عن سائر شهور السنة في خاصية منفردة يلتزم فيها جميع المسلمين، هي فريضة الصيام التي شرعها ديننا الحنيف طيلة شهر رمضان المبارك يوميًا من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وفي هذا الشهر ترافقه عادات اجتماعية مثل الزيارات العائلية وتبادل الدعوات على وجبات الإفطار والسحور بقصد العبادة والترفيه، ما يسهم في زيادة الطلب على السلع الغذائية واستهلاك الموارد الطبيعية والغذائية والطاقة.
وامتثالاً لأمر الله عز وجل بقوله (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، فقد جاءت الآية الكريمة صريحة تدعو إلى ضرورة الحفاظ على البيئة ومقدراتها وحمايتها، وبما أن هناك علاقة متبادلة بين الإنسان والبيئة، ولها تأثير واضح في الإنسان، وبالمقابل فإن الإنسان كذلك له أثر كبير على البيئة بين الإيجابي والسلبي الذى يسهم في حماية أو تدهور أنظمتها الطبيعية؛ لذا فإن المحافظة على البيئة واجب أمرنا به سبحانه وتعالى؛ لذا يجب علينا في هذا الشهر الفضيل الترشيد في الاستهلاك والحد من الإسراف في المياه والأغذية والموارد الطبيعية والطاقة، والتقليل ما استطعنا من استعمال المصنعات البلاستيكية الضارة بالبيئة غير القابلة للتحلل قدر الإمكان، خاصة أن شهر رمضان مناسبة تجتمع فيها العائلات والأصدقاء حول موائد الإفطار المتنوعة، حيثُ تصاحب هذه الولائم ظاهرة الإسراف في الاستهلاك واعتبارها مظهرًا للتعبير عن الكرم وحفاوة الاستقبال والفرح، وتبلغ هذه الظاهرة أوجها خلال فترات الصيام الذي يتكون لدى الأنسان شعور بالجوع الشديد، ويدفعه إلى إعداد موائد إفطار تحوي أطعمة تفوق احتياجاته بكثير، ومن هنا تبدأ قصة الاستهلاك غير المدروس في شهر رمضان الذي تتعدد فيه الأطباق إلى حد المبالغة والإسراف من بعض العوائل، وينشغل أغلبية العائلات قبل أيام عديدة من شهر رمضان في التسوق المفرط لشراء المواد الغذائية الداخلة في المائدة الرمضانية متنوعة ما بين شتى أنواع اللحوم والخضار وغيرها، فضلاً عن أطباق الحلويات، ربما يدخل بعضها في باب الإسراف الذي نهى عنه الإسلام، فكثير من العائلات تبالغ في تعدد أصناف الطعام وكمياته، ليلقي بها في حاويات القمامة نهاية المطاف.
إن قضية الاستهلاك المفرط في الموارد الطبيعية والغذائية واستخدامات المياه والطاقة وغيرها ليست حرية شخصية، وينتهي دور المستهلك عندما يتكفل بدفع المستحقات المالية المرتبة جراء شرائه السلع التي قام باستهلاكها، إنما هي قضية مجتمعية ومسؤولية وطنية تجاه البيئة واستدامة الموارد الطبيعية لأجيالنا المستقبلية، فإن التزم كل فرد منا بالتعاليم والمبادئ التي تنص عليها جميع الأديان السماوية في العمل على اتباع أسس ترشيد النفقات والحفاظ على صحة البيئة التي نعيش فيها، حيثُ إن علينا جميعًا مسؤولية إنسانية ووطنية تجاه تنميتها واستدامتها للأجيال القادمة. فنحن شركاء في استهلاك الموارد الطبيعية، وكذلك نستطيع أن نكون شركاء في الحفاظ عليها إذا أوقفنا ما نراه من أشكال الإسراف والهدر الذي يُشكل في حال استمراره مشكلة مستقبلية تواجه الأجيال القادمة، وانطلاقًا من الأهداف الإستراتيجية المحققة لرؤية المملكة 2030، يجب علينا التكاتف بشكل أكبر للمساهمة في دعم وزيادة الوعي لترشيد الاستهلاك المفرط والتقليل من المخلفات المنزلية والقمامة الزائدة بشكل واضح نتيجة زيادة الاستهلاك الغذائي في شهر رمضان مقارنة بالأشهر الأخرى، والتي بلا شك لها تأثيرات سلبية على البيئة وصحة المجتمع التي هي امتداد لصحة أفراده الجسمية وصحة البيئة التي يعيش فيها وسلامتها من جميع أشكال التلوث.
يجب علينا العمل جديًّا على تغيير سلوك الأفراد في المجتمع في مسألة ترشيد الاستهلاك بقصد حماية الموارد الطبيعية واستدامتها خاصة في هذا الشهر الفضيل الذي سيمتد أثره الإيجابي إلى جميع أشهر السنة في حال التزام الأفراد بالقواعد الصحيحة نحو التغيير الفعلي، ويمكن أن يشارك في هذه الممارسات كل أفراد المجتمع، من خلال استخدام لغة التأثير والإقناع الإيجابي نحو شرائح المجتمع وأفراده، والعمل على إعادة برمجة قاعدة السلوك المسؤولة عن طريق المبادرات الوطنية ذات الإجراءات الواضحة، والتي تساعد أفراد المجتمع على تطبيق أفضل الممارسات بما يضمن لنا أفضل النتائج لبيئة صحية وسليمة، وقد رأينا عديدا من المبادرات التي بدأت بفكرة بسيطة وصولًا إلى تحقيقها على أرض الواقع، وأبرزها ما تم تدشينه من قبل المجالس البلدية الحملات البيئية الوطنية التي حملت رسائل رمضانية هدفت إلى زيادة الوعي البيئي بقضية المخلفات المنزلية وتأثيرها السلبي على البيئة حملة: «بيئتنا غير في شهر الخير»، والتي دشنتها بلدية المحافظة الشمالية بالتعاون مع المجلس البلدي وبشراكة حقيقية مع الأوقاف بوزارة العدل بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، والتي أعلن فيها تدشين فعالية المجالس الرمضانية البيئية، وذلك بتنظيم حلقات الحوار الرمضانية النوعية في مجالس الشمالية بمشاركة المختصين والمسؤولين إلى جانب نشطاء العمل التطوعي البيئي، ودعوة جميع المجالس الرمضانية إلى الاستفادة من هذه المبادرة بالتنسيق مع البلدية لتسجيلها ضمن قائمة المجالس الرمضانية البيئية لاستضافة الفعاليات البيئية. كذلك فإن للمبادرات الشبابية الهادفة دورًا فاعًلا في توعية المجتمع نحو الترشيد في استهلاك الموارد الطبيعية والغذائية في كل وقت وخاصة شهر رمضان، ومن أبرز هذه المبادرات الرائدة في المجتمع «جمعية حفظ النعمة» التي تهدف إلى توعية المجتمع حول أهمية حفظ النعمة والتصرف في الطعام الزائد وفق آليات صحية مستدامة، ما يسهم بالتأكيد في الحد من المخلفات المنزلية.
وانطلاقًا من الواجب الشرعي والوطني، فإنه يقع على عاتق كل فرد منّا مسؤولية مجتمعية تجاه حماية الموارد الطبيعية، والترشيد في الاستهلاك الغذائي والتقليل من المخلفات المنزلية التي باتت تؤرق المجتمع كافة لما تسببه من تجمع للحشرات والآفات الضارة بصحة الإنسان وسلامته. إن الغرض الأساسي من المحافظة على البيئة هو المحافظة على الإنسان ورفاهيته في فترات حياته، ولهذا نجد أن جميع الأديان السماوية، تدعو إلى اتخاذ خطوات فعالة في مجال الحفاظ على الثروات والموارد الطبيعية والاقتصاد في استهلاكها بهدف توريثها صالحة للأجيال المستقبلية، وبالأخص الديانة الإسلامية خاتمة الرسالات السماوية إلى البشرية التي اهتمت بالبيئة اهتمامًا كبيرًا، كما أن الإخلال بالمكونات الطبيعية التي خلقها الله تؤثر سلبًا في الحياة بكل عناصرها من الماء، والهواء، والتربة، وقد خلق الله تعالى البيئة وسخرها لخدمة الإنسان، فمن المؤكد أن يشرع القوانين ويضع القوانين التي تكفل حفظ التوازن البيئي، وترشيد الإنسان إلى طريقة حماية البيئة، وكيفية التعاطي مع أنظمتها وقوانينها، والترشيد في استهلاك الموارد والعمل على توجيه الأفراد للاستهلاك الأفضل من أهم الركائز التي تقوم عليها المجتمعات السليمة، تحقيقًا لأهداف التنمية المستدامة الشاملة.
{ مختصة في فلسفة الدراسات
البيئية وآليات التنمية المستدامة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك