أعلنت الصين نفسها لاعبا دوليا يأخذ صفة القوة العظمى في تفاعلات وحسابات عالم يتغير بأزمتين كبيرتين ومعقدتين. الأولى، باحتضان المصالحة السعودية الإيرانية وسيطا وضامنا. وقد حققت وساطتها اختراقا جوهريا رغم التحديات والمخاطر الماثلة.
والثانية، بالمبادرة النشطة للتوصل إلى حل سياسي للحرب الأوكرانية، لقاء في موسكو مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحوار بالفيديوكونفرنس منتظر مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
لم يعهد عن بكين لعب مثل هذه الأدوار التي تنتسب بتأثيراتها وفاعليتها إلى عوالم القوى العظمى.
لعقود طويلة ومتصلة حاولت بقدر ما تستطيع أن تنفي أنها قوة عظمى رغم تراكم المال والسلاح الذي تحوزه قائلة: «لسنا قوة عظمى.. نحن دولة نامية من العالم الثالث، ما زلنا تلاميذ على مقاعد الدرس والتعلم من تجارب الدول الأخرى».
بتلك العبارة القاطعة احتج أساتذة صينيون في كلية اللغات الأجنبية بجامعة بكين على وصف بلادهم بأنها «قوة عظمى» أثناء حوار مسهب معهم في خريف 2017.
لم يكن ذلك تواضعا بقدر ما كان التزاما بسياسة النفس الطويل. هناك مناطق واسعة تعاني فقرا مدقعا ومن أولوياتنا تحسين أحوالها ومستويات معيشتها قبل ممارسة أي أدوار تنتسب إلى عظمة القوة، ولا تنس أن المتوسط السنوي لدخل المواطن لا يتجاوز (8000) دولار، وهو أقل مما يحصل عليه مواطنو بعض الدول النامية.
لم تكن الصين في عجلة من أمرها للعب أي أدوار عظمى، كأنها تجلس بصبر على حافة النهر في انتظار جثة عدوها طافية، على ما تعلمت من حكيمها «كونفوشيوس».
أكثر ما يثير الالتفات في التجربة الصينية قدر التواضع في النظر إلى حجم الإنجاز وحجم تراكم خبرة بناء الدولة من دون صدام مع شرعية الثورة، التي قادها إلى النصر عام (1949) زعيمها «ماو تسي تونج».
بعد رحيل «ماو» في عام (1976) دخلت الصين مدة عامين في صراعات سلطة وفترة حيرة في أي طريق تذهب، حتى أمسك بمقاليدها «دينج هسياو بينج» ــ نائب رئيس الوزراء التاريخي «شو ان لاي» وتلميذه الأقرب ــ وشرع في وضع اللبنات الأولى لسياسة الانفتاح الاقتصادي، وفق ما أطلق عليه «اقتصاد السوق الاجتماعي».
تصعب نسبة الطفرة الاقتصادية في الصين إلى أفكار «ماو» إلا بقدر تراكم التجربة، فقد فتح الباب واسعا للتغيير ونقل البلد كله من حال إلى آخر، من التخلف المفرط وحروب الأفيون إلى القرن العشرين وحقوق مئات الملايين في العدالة والتنمية والحياة بكرامة.
الانتساب إلى «ماو» مسألة شرعية، غير أن الماوية، من حيث هي أفكار وتصورات وسياسات تكاد تكون قد طويت.
احترام إرث الماضي وتصحيحه دون صخب مكن البلد من عبور أي منزلقات تعوق تقدمه خطوة بعد أخرى على طريق الألف ميل استلهاما للحكمة الصينية الشهيرة. هذا من مقومات سياسة النفس الطويل وتصحيح الأخطاء ومواجهة الحقائق، كما هي على الأرض بلا ادعاء تواضع.
المبدأ الصيني الحاكم في إدارة السياسة العامة يمكن تلخيصه على النحو التالي: أكبر قدر من المصالح وأقل قدر من المنازعات.
لماذا تتقدم الصين الآن إلى حيث لم يعهد عنها طوال رحلتها الطويلة؟ هذا سؤال جوهري تعود إجابته إلى دواعي القلق عند التنين الصيني من متغيرات السياسة والسلاح في عالمها وحولها ومدى الأخطار التي قد تحيق بها.
هناك ــ أولا ــ محاولات أمريكية لا تتوقف لجرها إلى سباق تسلح يستنزف مشروعها الطموح للقفز إلى المرتبة الأولى في الاقتصادات العالمية على حساب الولايات المتحدة، التي تتمتع بثقل القوى العظمى الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بحسب معهد ستوكهولم فإن النفقات العسكرية العالمية السنوية تجاوزت تريليوني دولار لأول مرة.
رفعت الصين منسوب إنفاقها العسكري دون زيادة كبيرة خشية استنزاف طاقتها وقدرتها على النمو الاقتصادي المطرد.
وهناك ــ ثانيا ــ تحديات أمنية ضاغطة تطرح عليها في المحيطين الهادي والهندي ومن جزيرة تايوان، التي تعتبرها بكين جزءا من أراضيها، وفق مبدأ «صين واحدة» المستقر دوليا. وقد كان التوجه الأمريكي البريطاني لتزويد أستراليا بغواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية بالقرب من محيطها الجيوسياسي داعيا إلى قلق بالغ من تصعيد منسوب الاستفزاز العسكري.
بصورة أو أخرى، الصين لا تريد أن تتورط في مواجهات عسكرية مباشرة، لكنها لا تستطيع أن تصمت على التهديدات الماثلة على حدودها. بين الخيارين الخطيرين، تحاول الصين أن تجد منافذ سياسية تمكنها من إثبات حضورها الدبلوماسي وقدرتها على الردع تجنبا لأي مواجهات تحرفها عن طموحها الاقتصادي.
وهناك ــ ثالثا ــ خشية من أن يكون الدور عليها إذا ما نجحت الولايات المتحدة في كسب الحرب الأوكرانية وتقويض الدور الروسي.
يصعب على بكين التخلي عن موسكو، ويصعب عليها بذات القدر أن تتورط في الحرب الأوكرانية. التخلي نذير ضربة مماثلة تلحق بها تاليا والتورط في دخول فخ الاستنزاف. لعرقلة أي صعود صيني محتمل على حساب أدوار وأوزان الولايات المتحدة تمارس واشنطن بحقها ابتزازا سياسيا يتهمها من دون دليل واحد بإمداد الروس بأسلحة وذخائر. كان ذلك الاتهام المعلق على النوايا أقرب إلى سيف مسلط يستهدف عرقلة الطموح الاقتصادي الصيني وتهديده بفرض عقوبات اقتصادية عليه.
وهناك ــ رابعا ــ ترنح الإمبراطورية الأمريكية رغم عنفوان القوة الذي أبدته في الحرب الأوكرانية واهتزاز النظام الدولي كله من دون أن ينهض نظام دولي جديد من تحت أنقاض الحرب المشتعلة.
ربما وجدت الصين أن الوقت حان للتقدم الحذر إلى منصة القوى العظمى من باب المبادرات النشطة، أرادت أن تقول وهي تتقدم لإعادة توصيف أدوارها الدولية إنها قوة سلام وأمن واستقرار. يومئ ذلك إلى تحولات مقبلة في بنية الأدوار مرحلة بعد أخرى وليست مرة واحدة على الطريقة الصينية المتريثة.
إن الغرب يترقب ما قد يحدث في المستقبل والصين أمامه لغز يستعصي على الفهم والإحاطة، رغم أن حجم ما ينشر عنها في الميديا الغربية يفوق ــ في بعض الأحيان ــ اهتمامها باقتصادات بلدانها.
والعالم العربي يتابع الصعود الصيني من دون يقظة حقيقية حتى الآن تساعد على فهم ما قد يحدث بنا وحولنا.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك