الرأي الثالث
محميد المحميد
malmahmeed7@gmail.com
جبر الخواطر.. عبادة وأخلاق
يروي د. عبدالله المغلوث موقفا إنسانيا عن الراحل غازي القصيبي، الوزير والسفير السعودي -رحمه الله- أنه استدعى ذات يوم أحد الموظفين، واستقبله بحفاوة بالغة وابتسامة هائلة، وافتتح الحوار معه بقوله: «أنا خادمك.. ماذا تريد الآن؛ لتعود لنا فارسا لا يشقّ له غبار؟». حينها انهار الموظف أمامه قائلا: إن ظروف زوجته الصحية هي التي استنزفت ميزانيته وتركيزه.. ووعده أن يعود كما كان فور أن يتجاوز هذه الظروف الطارئة.
لم تمض سوى أيام قليلة على لقائهما في المكتب حتى زاره القصيبي في المنزل دون سابق إنذار، ترافقه باقة زهور ومبلغ عشرة آلاف ريال.. تأثر الموظف كثيرا بهذه الزيارة وما فيها.. وعندما رزق بطفل بعد عامين من مرور هذه الحادثة، لم يجد اسما أفضل من غازي لينادي به طفله ويوثق به موقفا إنسانيا نبيلا.
جبر الخواطر ومساعدة الناس والتعامل الأخلاقي من العبادات الأكثر أجرا عند الله تعالى، والأكثر نفعا للناس، فالعبادة ليست صلاة وصوما، وتراويح وقياما، وختمة قرآن وصلة أرحام، بل إن جبر الخواطر عبادة كذلك، وهي دواء وشفاء، وموقف رفيع ومؤثر، لا ينساه صاحبه مدى الحياة.
يقول الإمام سفيان الثوري: «ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم».. ويقول العلماء إنه مما يعطي هذا المصطلح جمالاً أن الجبر كلمة مأخوذة من أسماء الله الحسنى وهو «الجبار»، وهذا الاسم بمعناه الرائع يُطمئنُ القلبَ ويريحُ النفس، فهو سُبْحَانَهُ «الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصِحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتّصِفٌ بِكَثرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ».. كما أن جبر النفوس من الدعاء الملازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: «اللهم اغفر لي وارحمني واهدني واجبرني وارزقني».
في حياتنا اليومية نواجه العديد من المواقف والأشخاص.. في البيت والعمل والشارع.. في المسجد والسوق والمجلس مع الأصحاب والأهل.. في المدرسة والجامعة والمستشفى وغيرها.. وبالإمكان أن يكون في كل منها مناسبة سانحة لجبر الخواطر.. ذلك أن جبر الخواطر ليس محصورا في إعطاء مال لفقير أو محتاج، أو أن جبر الخواطر يكون مع أجنبي أو آسيوي في «برادة»، أو مع عامل النظافة والخادمة في المنزل، بل إن جبر الخاطر يكون مع الجميع بلا استثناء.. بكلمة طيبة، وعذر واعتذار، وشكر وامتنان، وتشجيع ودعم، وابتسامة وسلام، وإغاثة ملهوف ومساعدة إنسان.
حتى في الشارع حينما تجد شخصا محرجا في سيارته، وقد انتظر طويلا في المسار، ولا أحد يعطيه المجال للمرور، وتبادر وتسمح له بالمرور، تكون كمن أنقذته وجبرت بخاطره.. وحتى حينما تجد شخصا دخل مكانا ولم يجد كرسيّا أو موقعا وبادرت وأعطيته مكانك تكون قد جبرت بخاطره.. وحينما تسمع حكاية أو نكتة من شخص وتكون قد سمعتها ألف مرة أو أنها حكاية ليست متميزة، ولكن حينما تظهر تفاعلك مع الشخص تكون قد جبرت بخاطره وأسعدته.. والأمثلة عديدة وكثيرة ونواجهها في كل يوم.
ولعل أفضل ما قيل عن جبر الخواطر: «من سار بين الناس جابرًا للخواطر.. أدركه الله في جوف المخاطر».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك