بقلم: د. غريب جمعة
الحلقة الأولى
من يتفكر كيف كان وجود الكون اهتدى إلى الإيمان بخالق الكون، اما من يتفكر كيف كان رب الكون وخالقه فإنه يسلم نفسه إلى الهلاك والعياذ بالله وسيأتي البيان إن شاء الله.
والعقائد التي يعتنقها الأفراد أو الجماعات ناشئة عن التفكر لأن التفكر يقصد
حقيقة أزلية دائمة، منه البيان وكشف الحقيقة وحقيقة الله وكنهه محال أن يعلمها المخلوق لأنها لا نفاد لها ولا نهاية ولأنها مخالفة لحقيقة الأكوان التي أوجدها سبحانه وتعالى.
لذلك يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بأوضح بيان في حديثه الشريف حيث يقول: «تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله» (أخرجه أبو نعيم في الحلية وانظر فتح الكبير 2/35)
وتأمل أخي القارئ قوله تبارك وتعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» الشورى/11.
أي ليس مثل الله ذات وصفاتا وأفعالًا شيء من الأكوان المادية والروحية لأنه هو الذي خلقها وخلق ذواتها وأفعالها وصفاتها، ولن يماثل المخلوق الخالق في شيء من ذلك. تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
ونحن إذا رجعنا إلى نصوص الوحي الإلهي وجدنا أن التفكر أساس وأصل في العقائد، ومن أجل ذلك يحثنا خاتم الوحي الإلهي على التفكر في الأكوان التي تحيط بنا ونراها رأي العين. يقول الله تبارك وتعالى: «إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)». آل عمران 190/191]
ولبيان قدر التفكر في خلق السماوات والارض يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:
«ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيه!!».
(أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار وابن حبان في صحيحه).
وهيا بنا نتلو مزيدًا من آيات القرآن التي تحث على التفكر لتعرف أنه أصل أصيل في العقيدة الإسلامية وأنه المفتاح الصحيح لباب الإيمان بالله جل جلاله والذي يثمر الإيمان بكتبه ورسوله واليوم الآخر.
يقول تبارك وتعالى: «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(3). الرعد 2/3.
ويقول تعالى: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُون (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)». النحل 68/69.
ويقول عز من قائل: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ». الروم/21.
ونلاحظ هنا أن النماذج التي اخترناها تنتهي بالفعل المضارع «يتفكرون» الذي يفيد التجدد والاستمرار أي أنك كلما تفكرت في خلق الله وجدت ما يدهشك من عظيم قدرته وبديع حكمته.
وسوف ترى أن التفكر في خلق الكائنات وسننها وتكوينها واتصال بعضها ببعض يؤدي إلى براهين قطعية تدل على جلال مكونها وكبير علمه وسطوة قدرته وعظيم سلطانه جل جلاله.
ما هذا الكون العجيب الصنع؟ وما هذا العالم المحكم التدبير؟ وما هذه السماء وأعاجيبها؟ وما بال نجومها وأفلاكها؟ وما هذه الشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها وما هذه الأرض وما طحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، وأنبت فيها كل نبت وأرساها وشق فيها أنهارها وحلاها؟ وما هذا الليل والنهار؟ وهذا الفلك الدوار، ليل يزحف بجحافله ونهار يختفي بمعالمه ثم لا يلبث أن تعاد الكرة بنظام ومسرة؟
أليس يدل هذا كله على الخبير البصير المحكم التدبير الواحد القدير؟!
إن في ذلك لآيات لأولي الأبصار.
أما القول بأن المصادفة العمياء هي التي تهيمن على الكون وتدبره فهو قول لن نطيل الحديث عنه لأنه بلغ من التهافت والسقوط درجة جعلت أوله يركل آخره وآخره يصفع أوله!!.
وتأمل ما قاله أحد عباقرة الإغريق القدامى في العلم وهو «ديموقريطس» في هذا الصدد: «لا يوجد شيء في الطبيعة اسمه صدفة بل الصدفة خرافة اخترعت لتبرير جهلنا».
انظر كتاب قصة الحضارة وول ديورانت ( ج 2).
ثم يأتي العالم الجليل البروفيسور «أ.كريس موريسون» ليغلق باب القول بالمصادفة بطريقة رياضية بحتة وذلك في كتابه القيم: «العلم يدعو إلى الإيمان» يقول الرجل: خذ عشرة «بنسات» كلًا منها على حدة وضع عليها أرقامًا مسلسلة من (1) إلى (10) ثم ضعها في جيبك وهزها هزًا شديدا ثم حاول أن تسحبها من جيبك حسب ترتيبها من (1) إلى (10).
إن فرصة سحب البنس رقم (1) هي بنسبة (1) إلى (10) وفرصة سحب رقم (1)، (2) متتابعين هي بنسبة (1) إلى (100) وفرصة سحب البنسات التي عليها أرقام (1، 2، 3) متتالية هي بنسبة (1) إلى (1000) وفرصة سحب (1 ، 2 ، 3 ، 4) متتالية هي بنسبة (1) إلى (10000) وهكذا حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الأول من (1) إلى (10) بنسبة (1) إلى (10) ملايين!!.
أي عليك أن تحاول 10 ملايين محاولة حتى تخرج هذه البنسات في ترتيبها الأول من (1) إلى (10).
والقصد من هذا المثل البسيط أن أبين لك كيف تتكاثر الأعداد بشكل هائل ضد المصادفة.
الله أكبر (10) ملايين محاولة لترتيب (10) بنسات من (1) إلى (10) فكيف بترتيب هذا الكون الذي لا يعلم حدوده إلا خالقه جل جلاله؟!!.
وهل تصنع الصدفة ذلك؟
وإلى حلقة قادمة إن شاء الله....
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك