العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

التعـليم الحـواري ونجاح التجربة الفنلندية

بقلم: أيـوب عـليان

الجمعة ٠٧ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

يؤمن‭ ‬رائد‭ ‬الفكر‭ ‬التربوي‭ ‬البرازيلي‭ ‬باولو‭ ‬فريري‭ (‬1921‭ ‬‭ ‬1997‭) ‬بأهمية‭ ‬التعليم‭ ‬الحواري،‭ ‬ووضع‭ ‬كتابا‭ ‬يعده‭ ‬تربويون‭ ‬كثر‭ ‬سببا‭ ‬لنهضة‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬وأنحاء‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬حيث‭ ‬قدم‭ ‬فيه‭ ‬نظريته‭ ‬الجديدة‭ (‬التعليم‭ ‬الحواري‭) ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬استكشاف‭ ‬الأفراد‭ ‬لواقعهم‭ ‬الموضوعي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الوعي‭ ‬الإنساني‭ ‬والحرية‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬البنكي‭ (‬التلقيني‭)‬،‭ ‬إذ‭ ‬تمثلت‭ ‬لديه‭ ‬مشكلة‭ ‬رئيسة‭ ‬كامنة‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬السؤال‭ ‬الآتي‭: ‬كيف‭ ‬يستطيع‭ ‬المتعلمون‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يشعرون‭ ‬بوجودهم‭ ‬أن‭ ‬يسهموا‭ ‬في‭ ‬تبني‭ ‬أسلوب‭ ‬تعليمي‭ ‬يستهدف‭ ‬تطويرهم؟

هذا‭ ‬العمق‭ ‬في‭ ‬تفكير‭ ‬باولو‭ ‬فريري‭ ‬التربوي‭ ‬التحرري‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العالمي‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬كذراع‭ ‬للتنمية‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬باعتبار‭ ‬التعليم‭ ‬ينمي‭ ‬ويصنع‭ ‬العقول‭ ‬والأدمغة‭ ‬المنتجة‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬تنمية‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬لدى‭ ‬المتعلمين‭ ‬والمعلمين‭ ‬عبر‭ ‬ترسيخ‭ ‬أسس‭ ‬التربية‭ ‬الحوارية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الموضوعات؛‭ ‬ما‭ ‬عكس‭ ‬ذاته‭ ‬إيجابا‭ ‬على‭ ‬إضفاء‭ ‬طابع‭ ‬إنساني‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬التدريس‭.‬

أثرت‭ ‬التنشئة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬على‭ ‬الفكر‭ ‬الحواري‭ ‬لدى‭ ‬باولو‭ ‬فريري،‭ ‬حيث‭ ‬عاش‭ ‬ظروفا‭ ‬اجتماعية‭ ‬ومعيشية‭ ‬وتعليمية‭ ‬صعبة؛‭ ‬وعايش‭ ‬كيف‭ ‬كان‭ ‬حصول‭ ‬الفقراء‭ ‬في‭ ‬البرازيل‭ ‬على‭ ‬تعليم‭ ‬شبه‭ ‬مستحيل؛‭ ‬جرّاء‭ ‬الظروف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬يعيشونها،‭ ‬والناتجة‭ ‬عن‭ ‬القيادة‭ ‬الأوتوقراطية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحكم‭ ‬البلاد،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الجوع‭ ‬والفقر‭ ‬سببا‭ ‬مباشرا‭ ‬لعدم‭ ‬التحاقه‭ ‬بالتعليم‭ ‬خصوصا‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬والده،‭ ‬وكان‭ ‬لوالديه‭ ‬أثر‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬تفكيره،‭ ‬فهو‭ ‬يتحدث‭ ‬بلطف‭ ‬عن‭ ‬والده‭ ‬ووالدته،‭ ‬التي‭ ‬يقول‭ ‬إنها‭ ‬علمته‭ ‬الحوار‭ ‬واحترام‭ ‬اختيارات‭ ‬الآخرين‭ ‬بالقدوة‭ ‬والحب،‭ ‬لتدفعه‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬القاسية‭ ‬إلى‭ ‬تكريس‭ ‬حياته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحسين‭ ‬حياة‭ ‬الفقراء،‭ ‬والتفكير‭ ‬برؤية‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬المهمشين‭ ‬إلى‭ ‬محررين‭ ‬لأنفسهم‭ ‬عبر‭ ‬الحوار‭.‬

بنى‭ ‬فريري‭ ‬مفهومه‭ ‬للحوار‭ ‬التربوي‭ ‬على‭ ‬فلسفته‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬والتي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬التطبيق‭ ‬العملي‭ ‬مرتبط‭ ‬ارتباطًا‭ ‬وثيقًا‭ ‬بالحوار‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التطبيق‭ ‬العملي‭ ‬لإضفاء‭ ‬الطابع‭ ‬الإنساني،‭ ‬ويفترض‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬يتم‭ ‬بين‭ ‬طرفين‭ ‬متساويين‭ ‬في‭ ‬الحقوق،‭ ‬وأنه‭- ‬أي‭ ‬الحوار‭- ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬إلا‭ ‬بوجود‭ ‬ثلاثة‭ ‬عناصر‭ ‬أساسية،‭ ‬أولها‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬شخص‭ ‬حق‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أفكاره،‭ ‬وثانيها‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عملاً‭ ‬‮«‬لإيداع‮»‬‭ ‬الأفكار‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬آخر،‭ ‬أما‭ ‬العنصر‭ ‬الثالث‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ينأى‭ ‬عن‭ ‬الجدل‭ ‬والإساءة‭ ‬إلى‭ ‬الغير‭.‬

وتأكيدا‭ ‬لأهمية‭ ‬الحوار‭ ‬بين‭ ‬المعلمين‭ ‬والمتعلمين،‭ ‬دعا‭ ‬فريري‭ ‬إلى‭ ‬وجوب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬نظام‭ ‬التعليم‭ ‬ديمقراطيًا‭ ‬وحواريًا‭ ‬حسب‭ ‬المعايير‭ ‬الآتية‭:‬

{‭ ‬الحب‭ ‬أساس‭ ‬الحوار‭ ‬وجوهره،‭ ‬فحب‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬الاعتراف‭ ‬بحقه‭ ‬بالحياة‭ ‬وبحريته،‭ ‬ومن‭ ‬المستحيل‭ ‬إقامة‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الحب‭ ‬أساس‭ ‬العلاقة‭ ‬معهم‭.‬

{‭ ‬التواضع‭ ‬ضروري‭ ‬للحوار،‭ ‬فالعلاقة‭ ‬الحوارية‭ ‬المبنية‭ ‬على‭ ‬التواضع‭ ‬من‭ ‬الطرفين‭ ‬وسيلة‭ ‬للتعلم‭ ‬والعمل‭.‬

{‭ ‬الإيمان‭ ‬بإنسانية‭ ‬الإنسان،‭ ‬وأن‭ ‬البشر‭ ‬طيبون؛‭ ‬يستطيعون‭ ‬تغيير‭ ‬ظروفهم‭ ‬إذا‭ ‬قام‭ ‬حوارهم‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬الاحترام‭ ‬المتبادل‭.‬

{‭ ‬الثقة‭ ‬بوعي‭ ‬الآخرين‭ ‬وبمقدرتهم‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬عملية‭ ‬التغيير‭.‬

{‭ ‬الأمل،‭ ‬فوجودنا‭ ‬مرهون‭ ‬بالأمل‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬الواقع،‭ ‬واليأس‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الصمت‭ ‬وهروب‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬الواقع‭.‬

{‭ ‬التفكير‭ ‬الناقد،‭ ‬فالمفكر‭ ‬الناقد‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬عملية‭ ‬تطور‭ ‬مستمرة‭ ‬لتحقيق‭ ‬إنسانية‭ ‬الإنسان‭ ‬وحريته،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬تفكير‭ ‬ناقد‭ ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬عملية‭ ‬تطور‭ ‬مستمرة‭ ‬بل‭ ‬حالة‭ ‬يكتنفها‭ ‬الجمود‭.‬

أما‭ ‬حول‭ ‬انعكاس‭ ‬تلك‭ ‬المبادئ‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬التعليم‭ (‬التدريس‭)‬،‭ ‬فإنني‭ ‬أرى‭ ‬أنه‭ ‬يتطلب‭ ‬لتطبيق‭ ‬المبادئ‭ ‬السابقة،‭ ‬وجود‭ ‬معلم‭ ‬لديه‭ ‬مسؤولية‭ ‬أخلاقية‭ ‬ذات‭ ‬نظرة‭ ‬إيجابية‭ ‬لطلبته‭ ‬بأنهم‭ ‬مبدعون‭ ‬وقادرون‭ ‬على‭ ‬التعلم،‭ ‬ولديه‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬التواضع‭ ‬ديمقراطيا،‭ ‬مؤمنا‭ ‬بأنه‭ ‬ليس‭ ‬المصدر‭ ‬الوحيد‭ ‬للمعرفة‭ ‬وأنه‭ ‬سيطورها‭ ‬بالحوار‭ ‬مع‭ ‬طلبته،‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬استقلالية‭ ‬طلبته‭ ‬باحترام‭ ‬قدرتهم‭ ‬وتطلعاتهم‭ ‬نحو‭ ‬التعلم،‭ ‬ولديه‭ ‬ثقة‭ ‬متبادلة‭ ‬مع‭ ‬طلبته،‭ ‬ويعمل‭ ‬باستمرار‭ ‬على‭ ‬امتلاك‭ ‬إستراتيجيات‭ ‬وأساليب‭ ‬تدريس‭ ‬تجعله‭ ‬ميسرا‭ ‬للعملية‭ ‬التعليمية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تنمية‭ ‬مهارات‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي،‭ ‬ويكون‭ ‬دائما‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬بث‭ ‬الأمل‭ ‬الفردي‭ ‬والجماعي‭ ‬في‭ ‬طلبته‭ ‬ويشعرهم‭ ‬بأنهم‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬والتميز‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬المشكلات‭.‬

وبناء‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أوردناه؛‭ ‬فإن‭ ‬الحوار‭ ‬ضرورة‭ ‬وجودية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬والعمل،‭ ‬وبين‭ ‬إدراك‭ ‬العالم‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تغييره،‭ ‬وخلاصة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬للحوار‭ ‬شروطا‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬توافرها‭ ‬في‭ ‬العملية‭ ‬التعليمية،‭ ‬فمن‭ ‬دون‭ ‬التعاون‭ ‬بين‭ ‬أركان‭ ‬العملية‭ ‬التعليمية،‭ ‬ودون‭ ‬ثقة‭ ‬متبادلة‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأركان،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬إرساء‭ ‬الحوار‭ ‬ويضاف‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬الاهتمام‭ ‬بتنمية‭ ‬التفكير‭ ‬الناقد‭ ‬لدى‭ ‬الطلبة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التعلم‭ ‬بالمشروع‭ ‬وحل‭ ‬المشكلات،‭ ‬وتجنب‭ ‬نزعة‭ ‬الاستعلاء‭ ‬على‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأطراف‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أنسنة‭ ‬التعليم،‭ ‬وتبادل‭ ‬الحب‭ ‬بين‭ ‬الأفراد،‭ ‬والتعاون‭ ‬والوحدة‭ ‬والتكامل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التحسين‭ ‬والتغيير‭ ‬نحو‭ ‬الأفضل،‭ ‬والوعي‭ ‬بمحيط‭ ‬البيئة‭ ‬التعليمية،‭ ‬فكلها‭ ‬مقومات‭ ‬تعزز‭ ‬وصولنا‭ ‬حتما‭ ‬إلى‭ ‬بيئة‭ ‬تعليمية‭ ‬نموذجية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬تفاعل‭ ‬بشري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التربية‭ ‬الحوارية‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬طبقته‭ ‬فنلندا؛‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬غدت‭ ‬رائدة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬التعليم‭.‬

في‭ ‬الختام؛‭ ‬ما‭ ‬أحوجنا‭ ‬إلى‭ ‬إرساء‭ ‬نهج‭ ‬يعزز‭ ‬الحوار‭ ‬باعتباره‭ ‬ثقافة‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬وسيلة،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬المحصلة‭ ‬ليس‭ ‬إجراء‭ ‬ميكانيكيا‭ ‬بل‭ ‬نهج‭ ‬تربوي‭ ‬بامتياز،‭ ‬مؤطر‭ ‬لأنسنة‭ ‬العلاقة،‭ ‬وتأطيرها‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ديمقراطي،‭ ‬وبهذا‭ ‬يغدو‭ ‬ركيزة‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬تأثيرها‭ ‬في‭ ‬التربية،‭ ‬بل‭ ‬تؤثر‭ ‬التربية‭ ‬على‭ ‬التعليم‭ ‬وعلى‭ ‬المواطنة‭.‬

{ باحث‭ ‬مختص‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬التعليم

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا