ظهر مفهوم المدارس الخضراء الهادف إلى تطوير المؤسسات التربوية بيئيًّا، حيثُ يعود مصطلح المدارس الخضراء إلى تسعينيات القرن الماضي، لكنه لم يشهد انتشارًا إلا مع بدايات الألفية الثانية، وعلى الرغم من مرور سنوات عدة على ظهور المصطلح، ما زالت «المدارس الخضراء» ومبادئها غير منتشرة بشكل كافٍ. وأشارت القمة العالمية للتنمية المستدامة في جوهانسبرغ في عام 2002م، إلى فكرة «المدارس الخضراء» لتأكيد ضرورة الحاجة الماسة إلى ترشيد وتوعية الطلاب بأن إساءة استخدام الموارد الطبيعية واستنزافها في التنمية، سيجعل مستقبل الإنسانية قريبًا على المحك. لقد تبلورت فكرة» مدرسة بالي الخضراء» لزوجَين ورائدَي أعمال، هما جون وكينثا هاردي، اللذان كانا يحلمان ويؤمنان بفكرة «مدرسة خضراء» تدرس فيها ابنتهما. وكانت أول مدرسة خضراء بُنيت هي مدرسة بالي وافتُتحت في سبتمبر 2008، ومنها انتشرت فكرة المدارس الخضراء الموجودة حاليًا في العالم، وقد تم تصميم «مدرسة بالي» وصفوفها من البامبو تحيط بها الغابات الخضراء، وتمتلئ بالأجواء الطبيعية وتُعرف بأنشطتها المرتبطة بحماية البيئة مثل تدوير النفايات ومهارات الاستدامة، كما تركز الدروس فيها على حل التحديات التي تواجه الكوكب، وآليات التواصل مع الطبيعة لمنتسبيها من فئة الأطفال. وتوصف المدرسة الخضراء بأنها نموذج لمدارس عصرية تستند على مبادئ التعلم البيئي، وتطبيق أسلوب حياة مستدامة في المدرسة، والعمل على تفعيل أنشطة طلابية تهدف إلى إحداث تغيير في الوعي والسلوك في المجتمع فيما يتعلق بالبيئة وحمايتها، والقضايا البيئية ذات الصلة للبيئة المدرسية، يتم التركيز فيها على الاستخدام الرشيد للموارد، والمدرسة الخضراء تتعهد بالعمل من أجل البيئة بشكل بارز وبمشاركة المجتمع من أجل تعزيز تطوير المواقع داخل إطار المدرسة وخارجها، وعليه يمكن تعريف المدرسة الخضراء بأنها: المجال التربوي الذي يستند إلى مؤشرات المباني الخضراء الصديقة للبيئة، والتي تهدف إلى تدعيم المجال التربوي والقيمي والبيئي الذي يسهم في تفعيل العملية التعليمية والتربوية داخل وخارج المجال المدرسي.
ومع تصاعد الاهتمام العالمي بقضايا البيئة، وارتفاع أصوات المدافعين عن الحقوق البيئية بضرورة التصدي بفعالية للمشكلات البيئية الراهنة، وعلى رأسها مشكلة التغيرات المناخية والاحتباس الحراري المرتبطة بالتلوث الناتج عن الثورات الصناعية وممارسات الإنسان الخاطئة بحق العناصر البيئية ومقدراتها، وحتى الآن، ووفق خبراء البيئة والتعليم، فإن دول قليلة جدًا أولت أهمية قصوى للتغير المناخي والاستدامة في المناهج التعليمية بمدارسها، وتشير الأبحاث إلى أهمية التعليم المرتبط بحماية البيئة، حيث وجدت «منظمة بروكينز أن حصول (16) في المئة من الطلاب في المرحلة الثانوية بالدول ذات الدخل العالي والمتوسط على تعليم يختص بتغير المناخ يمكن أن يقلل من انبعاثات الكربون بنحو (19) غيغا طن حتى عام 2050»، وتشير بعض الدراسات إلى أن بيئة الصفوف يمكنها أن تؤثر في أداء الطفل الأكاديمي بما يصل إلى (25) في المئة، كما يرتفع معدل الأداء الكلي للطلبة في المدارس التي يدخلها ضوء الشمس بنسبة 10 في المئة، وقد أقدمت مئات المنظمات على توقيع خطاب لاتفاقية الأمم المتحدة للتغير المناخي راغبين في وضع معايير وطموحات جديدة تسهم في الفصول الدراسية بجميع أنحاء العالم، ومع انتشار ثقافة العمل وفق أهداف التنمية المستدامة، أصبح عديد من المدارس في شتى أنحاء العالم تلتزم ببرامج تربوية تتضمن خططا متكاملة، هدفها زيادة المساحات الخضراء داخل المدرسة وفي محيطها، مملوءة بالأزهار أو الأعشاب وأشجار الزينة، مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات النظافة المدرسية، والتقليل قدر الإمكان من استخدامات الأوراق في المدرسة، والحرص على إعادة استخدامها مرة ثانية، ونشر ثقافة البيئة الصحية الآمنة بتزويد الطلاب بالنشرات التي تتضمن معارف ومتطلبات متعلقة بحماية البيئة وصيانتها داخل المؤسسات التربوية وخارجها، وإيجاد الوازع البيئي لدى الطلاب، والعمل على تعميقه وتنميته لإكسابهم المحافظة على الموارد الطبيعية وخاصة غير المتجددة، واحترام البيئة والكوكب الذي يعيشون عليه، وفي المقابل فإنه كذلك يجب العمل على تنظيم برامج تدريبية للمعلمين والقائمين على نشر وتوعية الطلاب في المدارس، بالإضافة إلى إعداد دليل إرشادي لمدربي هذا البرنامج من المعلمين يتضمن أهم المبادئ التوجيهية والموارد التعليمية لتحقيق أهداف البرنامج والفعاليات البيئية خاصة الرحلات البيئية والمواقع التي يمكن للطلاب زيارتها، والأنشطة البيئية الممكن تنفيذها ومدى الاستفادة منها لتعزيز المعرفة واكتساب المهارات للتعليم البيئي المستدام.
إن مدارس مملكة البحرين تحوي العديد من الممارسات البيئية التي تترجم أهداف المناهج البيئية بطريقة ناجحة، والتي ساهمت بنقل قضايا البيئة من رؤية المناهج وترجمتها إلى التطبيق في الحياة اليومية سواء في المحيط المدرسي أو محيط المجتمع الذي ينتمون إليه. وخاصة أن التعليم الأخضر تعليم ممتع يتطلب بيئة طبيعية آمنة من المخاطر؛ وبفضل ما تتميز به مدراس المملكة من اتساع مساحتها، فإن ذلك يجعلها ممكنة في استثمار البيئة المدرسية في عمليتي التعليم والتعلم، وتنفيذ تجربة الانفتاح على الطبيعة والتعليم في الهواء الطلق وخاصة في أوقات اعتدال الطقس، وهذا النوع من التعليم يختلف عن التعليم التقليدي الذي يركز على التعليم خارج غرفة الصف، ويتضمن أنشطة تعليمية ترفيهية، مثل : المشي على رمال الساحل بعد عمليات التنظيف، وركوب القوارب، وزيارة المحميات الطبيعية، والمشاركة في رحلات ميدانية في بيئة طبيعية وتنفيذ أهداف المنهج الدراسي المتوافقة مع التعليم الميداني مثل البحث عن كائنات نباتية وحيوانية، أو دراسة أنواع الصخور في البيئة البحرينية، أو زيارة المواقع الأثرية والمتاحف، وكذلك يمكن تحديد «حصة بيئية» تنفذ فيها المشاريع والدورات البيئية، مثل دورات صناعة الصابون وصناعة الأوراق وتدويرها، والزراعة المدرسية وتنسيق بيئة التعلم الداخلية والخارجية، ومن أمثلة المشاريع التي تنمي الوعي البيئي وتكون منخفضة التكاليف والجهد، هو تحديد وقت خاص في الأسبوع المدرسي يشترك فيه جميع طلاب المدرسة من خلال تحديد المهام والمسؤوليات حسب فرق العمل، وذلك بتجميع المواد القابلة للتدوير من الصفوف في منتصف الأسبوع وآخره بتوجيه دعوة إلى الطلاب للاستمرار بإحضار المواد المطلوبة الخارجة عن حاجتهم ويرغبون برميها والتخلص منها، ومن ثم يتم بيعها للشركات المختصة لإعادة تصنيعها، ويلزم الطلاب كتابة تقرير وفق الخطوات المحددة عن هذه المشروعات للمساهمة في تنمية المهارات الكتابية والتمكن اللغوي باعتبارها أحد مهارات القرن الواحد والعشرين، وبذلك يكون للطلاب مساهمات فاعلة في المحافظة على البيئة، وتحقيق الهدف المنشود بجعل الوعي البيئي جزءًا أساسيًا من خطط المدرسة الاستراتيجية وأهدافها المستدامة، وتشجيع المشاركة في تحمُّل المسؤولية البيئية من جانب الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور والمجتمع المحلي من الجهات الرسمية ووسائل الإعلام والشركات التي تسهم بالتمويل لتحقيق «الاستدامة المالية للمؤسسة التعليمية» من خلال بيع المواد المجمعة من قبل الطلاب والقابلة للتصنيع كالورق والعلب البلاستيكية والمعدنية، وجميع هذه الممارسات سيكون لها أثر مستدام في اكتساب الطلاب العديد من المهارات والخبرات والاتجاهات والقيم الأخلاقية المتعلقة بالبيئة المدرسية التي تؤسس لجيل واع وقادر على اتخاذ القرارات وحل المشكلات باستقلالية.
هناك الكثير من الأفكار الإبداعية التي تزخر بها مدارس المملكة، وقد تم تطبيق بعضها بالفعل وتمت ترجمتها في الواقع المدرسي، ولو تم اعتماد ونمذجة هذه الأفكار التي تعنى بالبيئة والقابلة للتحقيق وغير المكلفة ماديًا وجهدًا وتعميمها على المدارس بصفة إلزامية مرحلية، فهذا بالتأكيد سيجعل من جميع مدارس المملكة فضاءًا علميًا متطورًا يسهم في تشكل القيم البيئية والتربوية اللازمة، والارتقاء بمصاف الدول التي تعتمد على تفعيل المدارس الخضراء من أجل المتعلم والمعلم والمجال المدرسي؛ لذا يجب عدم حصر مفهوم المدرسة الخضراء في فعاليات «التشجير» الذي يعد محورًا مهما ولا يمكننا تجاهل أهميته وأثره، ولكن المدرسة الخضراء هي مدرسة تربوية تعليمية تثقيفية تنموية تسهم في المحافظة على البيئة، والتي تعمل في مجالات ثلاثة: التعلم النظري، والاستخدام الرشيد والحكيم للموارد، والانخراط النشط في مبادرات ونشاطات مجتمعية، كما تسهم في التربية البيئية من خلال إنشاء مدارس صديقة للطالب يحرص عليها كفرد، وبدورها توفر له متطلبات التعليم الجيد مع مراعاة الجانب الجسمي والنفسي له فتزوده بآليات للراحة وحب التعلم والاكتشاف وتجعل منها فضاء يجد المتعلم نفسه فيه بعيدًا عن التعليم في المدارس التقليدية، وحتى يتأصل مفهوم المدرسة الخضراء بصورة كبيرة في المجتمع البحريني ويتكون الوعي الاجتماعي البيئي بأهمية المدرسة الخضراء وانعكاساتها الإيجابية على الطالب كضرورة حياتية وتربية بيئية وتعليم مستدام، إن تعميم وتأصيل مشروع المدارس الخضراء في مملكتنا سوف يسهم في تحقيق أهداف التربية من أجل التنمية المستدامة لدى الناشئة بشكل أسرع، ما يسهم في تعزيز سلوك الطلاب الإيجابي نحو البيئة المستدامة، وإيجاد اتجاهات بيئية من خلال إكساب الطلبة معارف جديدة واطلاعهم على الممارسات البيئية الفاعلة ذات الأثر المنتج، إذ يهدف إلى زيادة ثقافة الطلبة وجميع منتسبي المدرسة، والمجتمع المحلي وتوعيتهم بقضايا البيئة في الوعي البيئي، والممارسات التي ترسم مستقبل لبيئات تعليمية صحية وآمنة، كما يساعد على تهيئة الطلبة لاتخاذ قرارات صحيحة بشأن القضايا المتعلقة بالبيئة، وذلك بواسطة إنشاء اللجان الخضراء والأندية البيئية الهادفة إلى تطوير القيم البيئية وتأصيل المفاهيم والاتجاهات لدى الطلاب في جميع المراحل الدراسية.
ومن الممارسات المجتمعية الرائدة، إطلاق محافظة العاصمة «مسابقة العاصمة الخضراء» لطلاب المدارس بالعاصمة حيث شاركت(15) مدرسة بهذه المسابقة، وقد أقامت المحافظة حفل إعلان نتائج المسابقة بمشاركة الكادر التعليمي والطلابي للمدارس الفائزة والمشاركة بالمسابقة، التي هدفت إلى تحقيق حزمة من المبادرات والبرامج التي تعنى بالحفاظ على البيئة وتعزيز مفاهيم السياسات الخضراء بين أهالي العاصمة، ورفع مستوى الوعي بمفاهيم البيئة الخضراء عن طريق تشجيع المواطنين والمقيمين على الاهتمام بالبيئة ورفع مستوى الوعي بين جميع شرائح المجتمع، ورفع مستوى الوعي بمفاهيم البيئة لدى طلاب المدارس والجامعات. هذا وقد واصلت محافظة العاصمة تنفيذ مشروع العاصمة الخضراء منذ إطلاقه في عام 2014، والذي يحمل شعار «عاصمة خضراء... لحياة أفضل» الذي حظي باهتمام حكومي وشعبي عالي المستوى لكونه مشروعًا بيئيًا ومجتمعيًا ستكون له انعكاساته الإيجابية في زيادة الغطاء الأخضر بالعاصمة، إلى جانب قدرته على خلق وعي وثقافة بيئية وزراعية ورافدًا مهمًا في تحسين الصورة الجمالية للعاصمة إلى أعلى المستويات، حيث يعدُ الاستثمار في مجال المسؤولية المجتمعية من الأدوات الفاعلة التي تحرص المحافظة على تطبيقها لدورها في تعزيز الصورة الذهنية وبناء الثقة والولاء للمحافظة بين أوساط الأهالي، وهي رسائل تضع في أولى أولوياتها خدمة المواطنين والمقيمين بما يتماشى مع رؤية ورسالة المحافظة المنبثقة من رؤية البحرين الاقتصادية 2030.
ختامًا: إنه في إطار السعي الحثيث لمملكة البحرين للعمل على توفير بيئة تعليمية مستدامة بهدف الحفاظ على البيئة، وانطلاقًا من المسؤولية التشاركية تتعاون فيها الجهات الحكومية وغير الحكومية والقطاع الخاص للعمل على الزيادة من إمكانات تعديل السلوك الفردي والجماعي بشكل إيجابي وتحقيق جودة وأمن البيئة وسلامتها على أرض الواقع، فقد تبنت أهم الشركات الكبرى بالمملكة المبادرة العالمية للمدرسة الخضراء تحت مسمى «جائزة بابكو للمدرسة الخضراء» التي تم إعلانها لأول مرة في عام 2004م، وتعتبرُ من أهم المسابقات البيئية التي ركزت على تكريم مدارس المرحلة الثانوية بالمملكة مقابل الخطوات التي تقوم بها لتعزيز الوعي بالموضوعات البيئية، ويحق للمدرسة الفائزة رفع علم جائزة المدرسة الخضراء لمدة عام كامل حتى يتم اختيار المدرسة الفائزة في العام التالي، كذلك يعتبر مشروع المدارس المنتسبة لليونسكو أحد المشاريع الرائدة التي تتبناها وزارة التربية والتعليم منذ عام2007م في مملكة البحرين، بالتعاون والتنسيق مع منظمة اليونسكو التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، إذ تبلغ المدارس البحرينية المنتسبة (30) مدرسة حكومية من مختلف المراحل التعليمية، و(10) مدارس خاصة خلال العام الدراسي 2013/2012م، هدفها الوصول إلى تربية ذات جودة للجميع تتقاسم رؤية شمولية في إطار البحث عن السلام والحرية والتنمية.
{ مختصة في فلسفة الدراسات
البيئية وآليات التنمية المستدامة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك