بقلم: أدريان جولمس
بعد عشرين عامًا، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تدفع فاتورة غزوها الكارثي للعراق الذي قرره جورج دبليو بوش قبل عقدين من الزمن تحت تأثير المحافظين الجدد. فقد تبين أن غزو العراق كان خطأ جيوسياسيًّا فادحًا أضر بشكل خطير بالمصداقية الدولية للولايات المتحدة وقوض سياستها الداخلية.
في شهر مارس 2003، غزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق في عملية ذات أهداف غير محددة ومبررات مشكوك فيها. بعد انتصار عسكري سريع، تحولت هذه الحملة إلى كارثة استراتيجية في غضون أشهر قليلة، استغرق الأمريكيون سنوات للتعافي منها وهي لا تزال حتى اليوم تعاني من تداعياتها.
بعد عشرين عامًا، لا تزال عواقب هذا الصراع كبيرة. لا يزال المؤرخون يناقشون الأسباب الكامنة وراء هذه الحرب التي قررها فريق جورج دبليو بوش على أساس ادعاءات واهية ومبررات مطعون فيها وسيل من الأكاذيب.
يتفق الجميع على أن غزو العراق في عام 2003 كان من الممكن تفاديه بالكامل. كما أن اقتران الأحداث بقي غير قابل للتصديق بعد عشرين عامًا تقريبًا: عودة عملاء جورج بوش الأب، ولا سيما ديك تشيني ودونالد رامسفيلد، إلى الأعمال التجارية، المحبطين من انتصارهم خلال حرب الخليج الأولى قبل عشر سنوات؛ مأساة 11 سبتمبر 2001 التي أتاحت لهم فرصة استكمال هذه العملية غير المكتملة. إحباطات دولة تبحث عن عدو بعد الإطاحة بطالبان بسهولة بالغة في أفغانستان ...
استقر الرأي على إشعال فتيل هذه الحرب قبل العثور على الأسباب. أدت أكثر المزاعم غير المعقولة، والملفقة في بعض الأحيان من الصفر، إلى إقناع الرأي العام الأمريكي والدولي بأن صدام حسين أعاد تكوين ترسانة من أسلحة الدمار الشامل وحافظ على روابط «عملياتية» مع تنظيم القاعدة.
لقد ظل أقطاب ومنظرو تيار المحافظين الجدد يحرضون على التدخل العسكري ويروجون لفكرة دمقرطة الشرق الأوسط بالقوة. وبسبب حمى الحرب، تعامل الأمريكيون مع المؤسسات الدولية بأكبر قدر من الازدراء، واعتبروا أن التحذيرات، وخاصة منها الفرنسية، شبه خائنة.
أما وزير الخارجية الأمريكي في تلك الحقبة كولين باول، فقد ذكّر الرئيس جورج بوش بـما يسمى «قانون متجر الخزف الصيني» حيث قال له: «إذا خرقته، فأنت تملكه» وهو يعني أنك «ستدفع مقابل ما كسرته».
لقد أثبتت التطورات بعد ذلك صحة هذا الكلام، فقد تسبب الغزو العسكري الأمريكي للعراق في تنامي التيارات المسلحة والمتطرفة ليتحول التدخل الأمريكي بسرعة إلى كابوس وكارثة جيوسياسية حقيقية.
بعد غزو العراق استمر الأمريكيون في ارتكاب الأخطاء الفادحة التي تتجلى تداعياتها الوخيمة حتى اليوم. فالأمريكيون لم يقوموا بأي استعدادات لحسن إدارة البلاد بمجرد الإطاحة بالنظام الحاكم في بغداد، لذلك فسرعان ما وجدوا أنفسهم في مواجهة تمرد مزدوج وحرب أهلية طاحنة.
سرعان ما ارتدت الأكاذيب الأمريكية على الولايات المتحدة على وجه الخصوص. فالتنظيمات الراديكالية، ومنها تنظيم القاعدة استغل فرصة الفوضى العارمة والصراعات الدامية التي باتت تسود بلاد ما بين الرافدين للتجذر في قلب العالم العربي والانتشار في إطلاق العنان للعنف.
انتهزت إيران الفرصة لدعم المليشيات الدينية الشيعية واستنزاف الجيش الأمريكي. لقد أكملت الانتهاكات التي مارسها سجناء أمريكيون في سجن أبو غريب تشويه سمعة آخر الادعاءات الديموقراطية للمغامرة العسكرية الكارثية التي أقدمت عليها الولايات المتحدة الأمريكية.
تم تجنب الهزيمة بصعوبة في 2007-2008، عندما نجحت الولايات المتحدة رغم كل الصعاب في منع الانقسام النهائي للبلد، من خلال إرسال تعزيزات والاعتماد على القوة الشيعية الجديدة والمليشيات السنية لسحق هذه التنظيمات المسلحة.
كانت النتائج في ذلك الوقت كارثية بالفعل. خلال فترة الاحتلال الأمريكي، خلفت الحرب ما لا يقل عن 235 ألف قتيل بين المدنيين العراقيين وأكثر من 9 ملايين نازح ولاجئ.
قُتل ما يقرب من 9000 جندي ومقاول أمريكي وجُرح أكثر من 32000، العديد منهم أصيبوا بالشلل مدى الحياة. أدى التدخل العسكري الكارثي الأمريكي إلى قيام أول نظام شيعي في العالم العربي المعاصر وجعل البلاد تابعة لإيران.
هذا لم يسبق له مثيل في السجلات المعاصرة. وهكذا تخلصت واشنطن من أخطر خصم لها وسمحت للنظام الإيراني ببسط نفوذه عبر بلاد ما بين النهرين وسوريا ولبنان وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط والحدود مع إسرائيل.
ولم تنته اللعنة العراقية بهذا الفشل الذريع. بدلاً من تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، أطلقت المغامرة الأمريكية أيضًا حقبة جديدة من أعمال العنف في العالم، حيث انتشرت العمليات المسلحة في جميع أنحاء المنطقة وإلى أوروبا.
بقي الفرع القوي للقاعدة في العراق، الذي تحول إلى «الدولة الإسلامية في سوريا والشام» أي تنظيم «داعش» ثم «الدولة الإسلامية» تحت السيطرة فترة من الوقت، وقد استطاع هذا التنظيم الانتشار على نطاق واسع، مستغلاً الحرب الأهلية السورية للحصول على موطئ قدم في هذه الدولة المجاورة.
في عام 2014، عاد هذا التنظيم إلى العراق واستولى على الموصل والفلوجة وسيطر على ثلث البلاد، ليصل إلى أبواب بغداد. بعد عامين من رحيلهم من بلاد ما بين النهرين التي تركوها في حالة فوضى ودمار اضطر الأمريكيون إلى التدخل مرة أخرى تحت مسمى قوات التحالف الدولي، التي اكتفت بالغارات الجوية، فيما ترك الأمر للعراقيين لتنفيذ العمليات القتالية على الأرض.
ستستغرق عملية استعادة السيطرة على مدينة الموصل وتدمير التنظيم «داعش» ثلاث سنوات. امتدت عواقب الحرب في العراق إلى ما وراء الشرق الأوسط. على الصعيد الدولي، أدى التلاعب الوقح بالأدلة المزعومة المستخدمة لتبرير الغزو إلى جعل الولايات المتحدة تبدو كاذبة وكذلك إمبريالية منافقة، ما أثار موجة جديدة من العداء لأمريكا في جميع أنحاء العالم.
كما وجه الغزو، الذي بدأ دون تفويض من الأمم المتحدة، ضربة للمنظمة وميثاقها القائم على سيادة الدول الأعضاء والتزام بعدم التدخل في شؤونها الداخلية. لقد أدى التدخل العسكري الكارثي الذي قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في العراق إلى إسقاط كل تلك المبادئ والقيم التي تحكم العلاقات الدولية.
بعد عشرين عامًا، استقبلت العديد من الدول نتيجة لتداعيات غزو العراق كثيرا من الشك ما كشفت عنه أجهزة الاستخبارات الأمريكية والغربية حول استعدادات روسيا لغزو أوكرانيا في شتاء 2021-2022.
كما أضعفت ذكرى ازدراء إدارة بوش للقانون الدولي في ذلك الوقت جهود واشنطن الدبلوماسية لإدانة الغزو الروسي من قبل الأمم المتحدة حتى إن دول الجنوب لم تقف في صف الدول الغربية في إدانتها لروسيا لأنها تحمل صورة وإرثا أليما في علاقتها مع الغرب.
لم يفوت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدوره أي فرصة أو مناسبة إلا وتراه يذكر الغرب والعالم بكارثة غزو العراق، والذي قدمه كدليل على الازدواجية الأمريكية. أخيرًا، استفادت الصين إلى حد كبير من هذه السنوات من التشتت الاستراتيجي الأمريكي لاكتساب الزخم العسكري والسياسي والاستراتيجي في مناطق عديدة من العالم، بما ذلك منطقة الخليج والشرق الأوسط.
وبينما كانت الولايات المتحدة تحاول يائسة تكييف جيشها مع حرب مكافحة حركات التمرد، على غرار ما واجهته في العراق كانت الصين تسابق الزمن وتبني جيشًا قويا ينافس اليوم جيش الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
أخيرًا، كان في العراق للحرب تأثير عميق في المجتمع الأمريكي نفسه، حيث دخلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى عصر «ما بعد الحقيقة». أما أكاذيب إدارة جورج بوش على المسرح الدولي فقد كان لها تأثير أكثر خطورة في السياسة الداخلية الأمريكية نفسها.
فالوكالات الحكومية مثل وكالة المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفدرالي أو وزارة الخارجية، ولكن أيضًا وسائل الإعلام التي رافقت وضخمت الدعاية التي تهدف إلى تبرير الغزو، فقد فقدت مصداقيتها التي لم تستعدها حقًا منذ ذلك الحين.
وبينما انتقد المحللون الأوروبيون القوة العظمى الأمريكية، كانت حرب العراق أيضًا بمثابة بداية انسحاب أمريكي من الشؤون العالمية. أعاد الإخفاق المكلف للغزو العسكري للعراق إحياء الميول الانعزالية الأمريكية القديمة، التي تعود إلى عهد جورج واشنطن وإنشاء الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الميول الانعزالية التي تم كبتها إلى حد كبير منذ بداية الحرب الباردة.
إنه السم المدسوس في السياسة الأمريكية. فقد كان لهذا التشكك الواسع الانتشار الجديد في التدخل الأجنبي تأثير مباشر على الانتخابات الرئاسية التالية، حيث كان أول من استفاد منها هو باراك أوباما، الوافد الجديد على الساحة السياسية، الذي نجح في هزيمة هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين في عام 2008، ثم المرشح الجمهوري جون ماكين وهما من دعاة التدخل المتحمسين الذين أيدوا غزو العراق. كان أوباما عديم الخبرة دوليًا، وظل مهووسًا بالفشل العراقي خلال فترتي ولايته. وقد أوفى بوعوده الانتخابية وقام بسحب آخر القوات الأمريكية عام 2011، خلافًا لنصيحة هيئة الأركان العامة، ما مهد الطريق لعودة الجماعات المسلحة.
ظل أوباما يتردد في إرسال تعزيزات إلى أفغانستان وهو ما زاد في إضعاف مصداقية الولايات المتحدة في العالم، بل ومصداقيتها مع نفسها في الساحة السياسية الداخلية.
لكن حرب العراق أفضت قبل كل شيء إلى صعود دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة. فقد استخدم هذا المرشح الاستثنائي الذي خاض حملة ضد مؤسسة واشنطن في عام 2015 العراق لاتهام الأسر الحاكمة لبوش وكلينتون السياسيين بالمغامرة العسكرية.
قال دونالد ترامب في انتقاداته اللاذعة للحرب: «لقد ألحقنا الضرر بشدة ليس فقط بالشرق الأوسط، ولكن للإنسانية أيضًا... الشرق الأوسط مزعزع تمامًا، إنه في حالة فوضى حقيقية. كنا سنكون أفضل حالاً لو أنفقنا هذه الـ 4 تريليونات دولار في الولايات المتحدة الأمريكية، على المدارس والمستشفيات والطرق والمطارات وكل ما ينهار!».
لا يزال ترامب والتيار الانعزالي الأمريكي الجديد يستخدمان نفس الحجج لانتقاد المساعدات العسكرية لأوكرانيا. لا يزال تقييم الأثر النفسي الجماعي لحرب العراق أكثر صعوبة. ولكن حتى أكثر من فيتنام، يبدو أنها شكلت نهاية فترة التفاؤل الأمريكي.
بعد نشوة نهاية الحرب الباردة، ساهمت صدمة هجمات 11 سبتمبر 2001 في توحيد المجتمع الأمريكي حول قيم مشتركة. كان لحرب العراق تأثير معاكس، مثل السم الذي سرى قي شرايين قلب النظام السياسي، حيث وصلت الانقسامات السياسية إلى ذروتها بسبب الحرب في العراق.
امتد عدم الثقة بالمؤسسات والخبراء والحكومة ووسائل الإعلام، التي ولدت في الأوساط اليسارية، منذ ذلك الحين إلى اليمين. كما أخذ التلاعب بالحقائق الذي مارسته إدارة جورج بوش بعدًا جديدًا، ففتح حقبة من الحقائق البديلة، حيث يقدم كل معسكر سياسي واقعًا مختلفًا وفقًا لاحتياجات اللحظة، من دون أدنى اهتمام بالصدق.
قد يكون انتهاء حرب العراق قد أعلن عن غير قصد من خلال انتهاء حرب العراق من قبل المسؤول الكبير عن هذا الفشل الذريع.
خلال مؤتمر في دالاس المنعقد في مايو 2022، أشار الرئيس السابق جورج دبليو بوش إلى هجوم فلاديمير بوتين على أوكرانيا لإدانة «قرار الرجل الواحد بشن غزو وحشي غير مبرر تمامًا للعراق» قبل أن يتدارك ويصحح نفسه قائلا: «أعني ... أوكرانيا»، ليهمس أيضا قائلا: «العراق أيضًا».
بوليتيك
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك