سلسلة السيولة هي سلسلة كتب من تأليف عالم الاجتماع البولندي زيجومنت باومان (1925-2017) تناقش ظاهرة الحداثة ويصفها بالحداثة الصلبة التي تمثلت بسيادة وهيمنة العقل، وظاهرة ما بعد الحداثة (السائلة) التي هي ما نعيشه حاليا من تفكك المفاهيم الصلبة وتهشم وتشظي الحقائق والمفاهيم، باومان ابتدأ هذه السلسة بكتاب الحداثة السائلة، ثم تفرع منها الى سبعة مجالات طالتها السيولة وهي: الحياة، والحب، والأخلاق، والأزمنة، والخوف، والمراقبة، والشر، ان الحالة السائلة وفقا لباومان تمثل مرحلة الانتقال من الصلابة الى السيولة، عبر خلق بيئة جديدة لمساعي الحياة الفردية ومواجهة الأفراد لسلسة تحديات لم يسبق لها مثيلاً من قبل، احدى أهم تلك المعاني هو (الاستهلاك) فيرى باومان أن الاستهلاك قد تجاوز فكرة السلعة المادية إلى استهلاك العواطف والعلاقات الإنسانية وتكنولوجيا التواصل، بالصورة التي أثرت كثيرا على معاني الحياة والحب والأخلاق، وبالطريقة التي جعلتنا مراقبين باستمرار بسبب استهلاكنا النهِم للتكنولوجيا الحديثة، ما أدى إلى سيولة الخوف تحت وطأة الاستهلاك والقلق مما يخبئه الغد، وأنتج لنا اضطرابا أخلاقيا أصبح معه الشر مُبررا حتى من جانب الدولة، وبوصف مجتمعاتنا العربية وبالأخص العراقي من اكثر المجتمعات استهلاكاً، على مستوى السلع، فان السيولة اخترقت حتى المجالات العاطفية بهذا الاستهلاك المعولم، فعالم اليوم تغيرت فيه كل معاني الحب والعاطفة والأخلاق الى مجالات (المصلحة الذاتوية، والنفعية الباذخة) فنتج عن ذلك مسارات عدة للاستهلاك حتى في المجال الاعتباري المعنوي لعلاقات الانسان مع اسرته ومع مجتمعه المحيط، فتغيرت مثلا علاقة رب الاسرة بالأطفال، والمعلم بتلاميذه وغيرها من التغيرات التي جرت في مستوى العلاقات العاطفية والوجدانية، وتغير حتى مفهوم الحب إلى جانب براغماتي بحت في البحث عن (المال، أو محددات الثراء) في منظومة الزواج مثلا أو منظومة العلاقات برمتها، فلم يعد الجانب (الأخلاقي، العلمي) كافياً للحصول على زوجة، وإنما المحدد المادي يحكم العديد من هذه الارتباطات، كل هذا الاستهلاك المغرق بحياتنا نتج عنه خوف وقلق مستمر وحالة اللايقين لمآلات المستقبل جراء هذه ( المعطيات المغلوطة). إن مرحلة السيولة تمثل مرحلة تخلي الدولة عن دورها وفتح السوق امام الرأسمال الحر والاستهلاك المستمر، والاشباع المؤقت للرغبات هذا ما تحدث عنه باومان في تعريفه للسيولة، أي أن الفرد اصبح يواجه مخاوفه وحيداً في ظل هذا التسارع في كل شيء، بل ربما أن ممارسات الدولة بمجملها تمثل إضافات أخرى لحالات القهر والمخاوف التي تقع على عاتق هذا الفرد، فيفقد الفرد المزيد من الثقة والاطمئنان ويعتلي لديه مسار الخوف والقلق المستدام جراء هذه السيولة التي تربك الأفراد باتجاه غموض المستقبل وانعدام الرؤية للغد، فاصبح الافراد يهربون من واقعهم الحقيقي باتجاه العوالم الافتراضية، وبدورها تمثل هذه الافتراضات (الرأي، الحذف، الاستنكار، القبول، الإعجاب) ضغطات زر (استهلاكية وسريعة) في الحياة اليومية أصبحت تمثل محددات جديدة لعلاقات الواقع، مما يعني مزيداً من القيم الاستهلاكية داخل ذوات الافراد، وبصورة فورية مستعجلة تتغاير كل لحظة قيمة تلك المشاعر ودرجات قراراتها اتجاه الآخر بمسمياته كافة، مما ينمي المزيد من السيولة، ويحول المجتمع الى متفكك يسعى إلى انهاء او تكوين العلاقات بصورة سريعة، مما جعل تسرب الملل يسري في منظومة العلاقات الاسرية ومنها الحياة الزوجية وتشاع حالات الانفصال جراء (المتسبب الافتراضي/ مواقع التواصل والموبايل وغيرها من التكنولوجيا)، وعلى وفق هذا فقد تفككت المجتمعات والعادات والأعراف أنماط السلوك كلها لم تقاوم إزاء هذه السيولة ولم تصمد طويلاً إزاء ما تنتجه العولمة وعوالم الافتراض من قيم جديدة تتسق مع لذة الاستهلاك التي يسعى لتحقيقها الأفراد، في ظل كل هذا التنوع والخيارات المتاحة التي تعزز مفاهيم الاستهلاك في مجتمعاتنا وتغرقنا بالمزيد من حالات الوقوف في فخ العولمة السلبي وشباك الاستهلاك السلبي الذي يعطل الجوانب الإنتاجية في حياتنا ويزيد من حالات الخمول والتفكك والتشظي في مجتمعاتنا.
{ ناقد وأكاديمي (العراق/بصرة)
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك