تسربت مجموعة من الوثائق السرية الخاصة بوزارة الدفاع الأمريكية على الإنترنت، وهو ما رأت مجلة «الإيكونوميست»، أنه يمكن أن يتحول إلى «أسوأ اختراق استخباراتي أمريكي منذ عقد». وكشف التسريب عن كم كبير من المعلومات التي جمعتها «الوكالات الأمريكية»، حول عديد من القضايا الجيوسياسية والأمنية. وتمثل الواقعة أزمة أخرى لواشنطن؛ لا سيما أنها تأتي في أعقاب عدة وقائع حديثة مماثلة، الأمر الذي قوض سمعة الولايات المتحدة الدولية، كحليف موثوق به. وكتب «جاك ديتش»، و«روبي جرامر»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن الحادثة الأخيرة هي التي حدت بإدارة الرئيس «جو بايدن»، إلى «وضع تصور للأضرار المستقبلية المتوقعة».
وفي حين أن غالبية تعليقات المحللين قد ركزت على المعلومات التي تم تسريبها حول مساعدات حرب أوكرانيا، فقد تمت أيضًا الإشارة إلى قدرة «واشنطن»، على الاستمرار في جمع المعلومات حول المنافسين العالميين. ولاحظت «ناتاشا برتراند»، و«كايلي أتوود»، من شبكة «سي إن إن»، أن التسريبات «تكشف مدى تنصت الولايات المتحدة على حلفائها الرئيسيين». ومع الكشف عن تجسس وكالات الاستخبارات الأمريكية على حلفائها وشركائها في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا؛ أوضح «جيرمان لوبيز»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن الافتقار الواضح للثقة من جانب واشنطن بشركائها حول العالم، إلى جانب فشلها في الحفاظ على المعلومات السرية من المحتمل أن يجلب «المزيد من العواقب الملموسة»، ولن يقف فقط عند مجرد إحراج إدارة بايدن.
ووفقا لما نشرته صحيفة «واشنطن بوست»، فإن المعلومات المسربة عبر الإنترنت من حوالي 100 وثيقة تغطي «كل ركن من أركان جهاز المخابرات الأمريكية تقريبًا»، كما تتضمن تحديثات وكالة المخابرات المركزية، وأوراق إحاطة لهيئة الأركان المشتركة الأمريكية، بالإضافة إلى خرائط تفصيلية من الدفاعات والمواقع ذات الأهمية الاستراتيجية.
وبالنسبة إلى حرب أوكرانيا، أشارت مجلة «الإيكونوميست»، إلى أن التسريبات تقدم «تفاصيل مثيرة»، عن الوضع الحالي لكل من القوات المسلحة لأوكرانيا وروسيا، وتذهب إلى حد تفصيل «العدد الدقيق للقذائف والصواريخ دقيقة التوجيه التي تطلقها كييف كل يوم». وبينما تؤكد «الكم الهائل» للدفاعات الجوية الأوكرانية، فإنها تزعم أيضًا أن ما بين 35.000–43.000 روسي لقوا حتفهم حتى الآن في الحرب مع جرح 154.000 آخرين، في حين تم تقليص أسطول الدبابات من أكثر 2000، إلى ما يقرب من 400 دبابة قتالية متبقية جاهزة. وفي ضوء هذه المعلومات، تم الكشف عن اعتقاد وكالات الاستخبارات الأمريكية، بأن الحرب «تتجه نحو طريق مسدود»، مع توقع استمرار القتال «المطول إلى ما بعد عام 2023».
علاوة على ذلك، كشفت الوثائق أيضًا عن المدى الذي يمكن لوكالات المخابرات الأمريكية من خلاله جمع معلومات حول خصوم «واشنطن»، الجيوسياسيين. وأشار «لوبيز»، إلى أنها توضح كيف أن عملاء أمريكا يمكنهم بالفعل «الوصول إلى أعماق أعلى مستويات السلطة بحكومات الدول الأخرى». ومع ورود تقارير تفيد بأن «الوكالات الأمريكية»، نفذت بنجاح عمليات المراقبة الخاصة على المسؤولين الروس، وتمكنت من تحذير الأوكرانيين من الهجمات المخطط لها، وكذلك تحديد محاولات «موسكو»، لتشكيل شراكات في الشرق الأوسط؛ رأت مجلة «الإيكونوميست»، أن التسريب «يؤكد ذلك مع اختراق وكالات الاستخبارات الأمريكية روسيا بدرجة ملحوظة».
وفي ضوء هذه الديناميكيات، «من المرجح الآن أن يتخذ الروس إجراءات وقائية»، لضمان عدم نشر معلومات حساسة. وأشار «دوجلاس لندن»، ضابط العمليات السابق في وكالة المخابرات المركزية، إلى أنه في حين أن التسريب محرج لواشنطن، وقد يوفر لموسكو فرصة للاستمتاع بالحرج الأمريكي؛ فإن تصوير «الخسائر وعدم الكفاءة الروسية، ربما يكون ضارًا بنفس القدر لبوتين مثلما، هو الحال لجو بايدن».
وعلى الرغم من أن تسريبات البنتاجون قد كشفت عن مدى قدرة «الولايات المتحدة» على جمع المعلومات عن منافسيها؛ فقد أشار «لوبيز»، إلى كيفية ارتباط «بعض المواد الأكثر حساسية»، برأيها تجاه حلفائها. وفي الواقع، هناك أدلة على قيام أمريكا بعمليات تجسس ضد شركائها وحلفائها، بما في ذلك التجسس المزعوم ضد الرئيس الأوكراني، «زيلينسكي». وأضافت «الإيكونوميست»، أن مسؤولي المخابرات الأمريكية «لا يتطفلون على الجنرالات الأوكرانيين فقط، لكن أيضًا على المسؤولين في المجر، وإسرائيل، وكوريا الجنوبية»، وكذلك على الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وكشفت الادعاءات الواردة من الوثائق المسربة – بأن «فيكتور أوربان»، رئيس الوزراء المجري صنف الولايات المتحدة، كواحدة من أكبر خصومه الثلاثة، وأن الاحتجاجات الإسرائيلية الأخيرة ضد حكومة «نتنياهو»، اليمينية المتطرفة، قد دعمها مسؤولون كبار في الموساد – عن نقص واضح في الثقة والتوافق بين الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو والشرق الأوسط. واكتسبت قضية «كوريا الجنوبية»، مزيدًا من الاهتمام، مع كشف الوثائق عن معرفة أمريكا بانقسام المسؤولين الكوريين الجنوبيين، بشأن تقديم ذخائر لأوكرانيا، بالنظر إلى استخدام «إشارات استخباراتية»؛ بمعنى الاستخدام المفترض للهاتف المعترض للاتصالات أو الرسائل بغية جمع المعلومات.
وفي حالة استخدام وكالات الاستخبارات الأمريكية، مثل هذه الأساليب للتجسس، ليس فقط على حلفائها المتمردين، ولكن أيضًا على كل شركائها الذين لا يرغبون في الانصياع للقيادة الأمريكية وأوجه سياستها الخارجية؛ فمن المرجح أن يكون النطاق الحقيقي لعمليات التجسس الأمريكية ضد كل من الأصدقاء والخصوم أوسع بكثير، مما كشفت عنه تسريبات البنتاجون الأخيرة.
وفيما يتعلق بمعارضة «واشنطن»، المستمرة لامتلاك «إيران»، لقدرات أسلحة نووية متطورة، ذكرت «شاين هاريس»، و«دان لاموث»، في صحيفة «واشنطن بوست»، أن التسريبات كشفت عن «تقييمات غير مبشرة» للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقدراتها على إجراء عمليات تفتيش لمنشآت طهران النووية، والتحقق من مستوى تطورها. ومع ذلك، لا تعد تلك التقييمات بحد ذاتها كشفًا جديدا؛ حيث لطالما حذرت «الوكالة»، من اقتراب إيران من الحصول على ما يكفي من اليورانيوم المخصب لصنع سلاح دمار شامل. ورأى «دانيال برومبرج»، من «المركز العربي»، أن «التفاؤل الحذر» لتلك الوكالة، وإمكاناتها حول مساءلة إيران قد «خففت مخاوف المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين من أن طهران «تماطل لكسب بعض الوقت، ليس إلا دون خطورة».
ومع إشارة «لوبيز»، إلى أن غالبية تداعيات التسريبات، ربما تكون قصيرة المدى نوعًا ما وقد تجعل «واشنطن»، مضطرة إلى «إعادة صياغة عمليات التجسس الخاصة بها من جديد»؛ فإن التداعيات طويلة المدى للكشف عن نطاقات شبكات التجسس الأمريكية – لا سيما تلك المستخدمة ضد كل من الحلفاء والشركاء – من المرجح أن تلحق ضرراً أكبر بسمعتها، كحليف موثوق به، وجدير بالثقة لدى الأطراف الدولية.
وبالنسبة إلى الأوكرانيين، أكدت مجلة «الإيكونوميست»، أن توقيت الكشف عن تلك التسريبات «لا يمكن أن يكون أسوأ من الوقت الراهن»، حيث إن القوات الأوكرانية «تستعد لهجوم مضاد يمكن أن يبدأ في غضون أسابيع». وأصبح واضحًا أن نقاط القوة العسكرية، ونقاط الضعف المحتملة لدى «كييف»، مكشوفة الآن للروس، وبالتالي فمن المشكوك فيه ما إذا كانت الحكومة الأوكرانية ستظل منفتحة على مشاركة المعلومات الحساسة مع نظيرتها الأمريكية.
علاوة على ذلك، هناك كشف آخر سيضر حتمًا بمصداقية الدول الغربية، كونه يتعلق بتفاصيل نشر عدة دول قوات خاصة لتنفيذ عمليات داخل أوكرانيا، وهو الكشف الذي أشار إليه كل من «بول آدامز»، و«جورج رايت»، من شبكة «بي بي سي»، بأنه «يؤكد صحة التكهنات التي استمرت لأكثر من عام حول طبيعة المساندة». وعلى الرغم من أن نوايا وأعداد هذه القوات التي تم نشرها لا تزال غير معروفة، إلا أن «الإيكونوميست»، أشارت إلى أن «وجودها وحده يساعد «موسكو»، في «تبرير روايتها بأنها لا تقاتل أوكرانيا فحسب، بل حلف الناتو بأكمله».
وعلى الرغم من أن وزارة الدفاع البريطانية، أوضحت أن التسريبات ربما تنم عن «مستوى خطير من عدم الدقة»، وترقى إلى «احتمال أن تكون جراء نشر معلومات مضللة»؛ فقد تعهد وزير الدفاع الأمريكي «لويد أوستن»، باقتفاء كل أثر حتى يجد مصدر تلك التسريبات». وأقر مدير وكالة الاستخبارات المركزية، «وليام بيرنز»، ببدء تحقيق «مكثف» من قبل «البنتاجون»، و«وزارة العدل». ومع ذلك، أشارت «الإيكونوميست»، إلى أن رد فعل الحكومة الأمريكية، يوضح «بكل تأكيد» أن المعلومات المسربة على الأقل حقيقية «جزئيا». وبالاتفاق مع هذا الرأي، أشار «هاريس»، و«لاموث»، إلى أن التدابير «الصارمة بشكل غير عادي»، من قبل مسؤولي الدفاع الأمريكيين، بشأن ضبط التدفق المستقبلي للمعلومات الاستخباراتية؛ يعد انعكاسًا لـ«مستوى عالٍ من الذعر» لدى قادة الدفاع والاستخبارات بعد الكشف عن التسريبات الأخيرة.
ومع الكشف عن مضمون تلك التسريبات أمام العالم؛ فإن الأضرار التي قد تلحق بسمعة أجهزة الاستخبارات الأمريكية نتيجة أية تسريبات أخرى محتملة لمعلومات تهدد الأمن القومي للشركاء والحلفاء؛ ستكون أيضًا «عاملاً رئيسًا»، بشأن عدم تعزيز العلاقات الأمنية بشكل أوثق. ومع إشارة «هاريس»، و«لاموث»، إلى ظهور بعض المواد المسربة لأول مرة على الإنترنت في فبراير الماضي، فقد تساءلا «كيف لم يلاحظ أحد لفترة طويلة مثل تلك المواد». ومع بقاء هويات ودوافع أولئك الذين يقفون وراء تلك الحادثة «مجهولة» حتى تاريخه؛ أثار «جرامر»، و«ديتش»، شكوكا حول «نقاط الضعف في قدرة واشنطن على إبقاء المعلومات الاستخباراتية سرية».
وبالاتفاق مع هذه الرؤية، أوضحت «الإيكونوميست»، أن الحلفاء والشركاء القدامى لواشنطن قد يكونون أكثر «ترددًا قبل مشاركة معلوماتهم الاستخباراتية معها، لاسيما بالنظر إلى أن انتشار وإذاعة معلومات حساسة وسرية بهذا الشكل، قد جعلها «أكثر شيوعًا». ومع إشارة كل من «برتراند»، و«أتوود»، إلى قيام وكالات الاستخبارات الغربية الأخرى الآن «بتقييم الأضرار»، و«تحديد ما إذا كان أي من مصادرها وأساليبها قد تم اختراقها أيضًا»، فقد أوضح «توماس ريد»، من جامعة «جونز هوبكنز»، أن «هذا النوع من الاختراق لو حدث في المملكة المتحدة، أو في إسرائيل، أو ألمانيا، أو أستراليا، فإن الولايات المتحدة كانت ستتوقف تمامًا عن مشاركة معلوماتها السرية مع أي منها من دون استثناء».
وفي حين أوضح «جاستن ماكاري»، و«جوليان بورجر»، و«بن دوهرتي»، في صحيفة «الجارديان»، أن إدارة بايدن، «تحاول بالفعل إصلاح العلاقات مع حلفائها الرئيسيين»؛ حيث تحدث «أوستن»، ووزير الخارجية «بلنكين»، مع أوكرانيا مباشرة لمحاولة طمأنتها من دعمها، يمكن أن يكون هناك القليل من الشك في أن هذه التسريبات صادرة من وزارة الدفاع الأمريكية، حيث لا تزال أصولها ودوافعها غير معروفة.
على العموم، تمثل «تسريبات البنتاجون»، ضربة لسمعة «الولايات المتحدة»، كحليف موثوق به وجدير بالثقة. ومن وجهة نظر الدبلوماسي الأمريكي السابق «بريت بروين»، فإنه من المرجح أن «يقل مشاركة» حلفاء واشنطن لبياناتهم الاستخباراتية في المستقبل معها، خاصة وأن هذه التسريبات الأخيرة لعام 2023، تشبه عددًا من الاختراقات المماثلة في التاريخ الحديث، والتي تبرهن جميعها على أن الولايات المتحدة، قد أثبتت نفسها على أنها غير موثوقة في حماية بعض المعلومات الاستخباراتية الحساسة المهمة».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك