في صندوق جدي المعدني هناك كثير من الأوراق الصفراء، وكثير منها مكتوب فيها قصص ظريفة ومفيدة، ومن تلك الحكايات قصة الأصمعي وسارق الرمان، ترى ماذا تقول الحكاية؟ ولكن قبل ذلك من هو الأصمعي؟
الأصمعي هو عبدالملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي البصري، يُقدر أنه من مواليد البصرة في حوالي عام 123 هجرية (741 ميلادية) وتوفي حوالي 216 هجرية (831 ميلادية)، وهو من راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان. وهو من مواليد البصرة وتوفي فيها، وكان كثير التطواف في البوادي، يقتبس علومها ويتلقى أخبارها، ويتحف بها الخلفاء، فيكافأ عليها بالعطايا الوافرة. أخباره كثيرة جدًا، ويقال إن الرشيد كان يطلق عليه (شيطان الشعر). قال الأخفش: «ما رأينا أحدًا أعلم بالشعر من الأصمعي»، وبالإضافة إلى ذلك فقد كان الأصمعي رائدًا في العلوم الطبيعية وعلم الحيوان، وخاصة تصنيف الحيوان وتشريحها، وذلك بسبب معرفته بالمفردات العربية والبحث عن المصطلحات الأصلية التي يستخدمها العرب للحيوانات.
والآن لنعد إلى أوراق جدي الصفراء وحكاية الأصمعي وسارق الرمان.
تقول الحكاية إن الأصمعي شاهد ذات يوم وهو يسير في شوارع البصرة جارية تحمل رمانًا فوق رأسها في وعاء. فتسلل إليها رجل فأخذ رمانة منها خلسة، وهي لا تشعر، فقام الأصمعي فتبعه حتى مر الرجل بمسكين فأعطاه الرمانة.
فتعجب الأصمعي من فعل الرجل، فمسكه وقال له: عجبا لك سرقتها، فظننتك جائعًا، أما أن تسرقها وتتصدق بها على مسكين، فهذا أعجب.
فقال السارق: لا يا هذا، أنا أتاجر مع ربي.
فرد الأصمعي مستنكرًا: تتاجر مع ربك، كيف ذلك؟
فقال الرجل: سرقتها فكتبت عليّ سيئة واحدة، وتصدقت بها فكتبت لي عشر حسنات، فبقي لي عند ربي تسع حسنات، فإذن أنا أتاجر مع ربي.
فقال له الاصمعي: سرقتها فكتبت عليك سيئة، وتصدقت بها، فلن يقبلها الله منك، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فأنت كمن يغسل الثوب النجس بالبول.
ثم وجدت هذه الملاحظة في نهاية الحكاية، تقول الملاحظة:
«سبحان الله كم في زماننا من أمثال هذا الرجل، يسرق ويكذب ويغش ثم يفتي لنفسه أو لغيره من دون علم، ويجادل بالباطل، وهو يظن أنه على الحق، ويبرر، ويدافع ليحلل لنفسه الحرام أو يوهمها أنه على صواب من أمره».
فذهبت أفكر في تلك الملاحظة الأخيرة كثيرًا، هل فعلاً نحن نعيش ويعيش حولنا الكثير من البشر ممن يجادلون بالباطل ليحوله إلى الحق؟ أو الذين يحللون المواقف لتتوافق مع رغباتهم ومتطلباتهم؟ دعونا نتصفح الأحاديث والأحداث اليومية التي نسمعها ونشاهدها.
تفسير الدين بما يريد: وجدنا أن كثيرا من الناس يقوم بكل ما يخطر على نفسه، ومن ثم يحاول أن يبحث عن بعض الآيات أو يستقطع جزئيات من آيات أو أحادث نبوية لتبرير ما يفعل، وكأنه من تلك الفئة التي تستقطع جزءا من الآية التي يقول فيها عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة)، فيتجاهل كل ما يلحق بها من تكملة. والغريب في الموضوع إن البعض من هؤلاء لا يعرف في الدين أي شيء، وإنما هي جزئيات من بعض الآيات والأحاديث التي تعضد ما يريد أن يفعل، فيفسر سلوكياته وحياته وفقًا لذلك.
والبعض من هؤلاء يجادل في الآيات والأحاديث النبوية الشريفة بطريقته الخاصة، ويجادل الناس بحسب ما يرتاح إليه هو، فمثلاً: ذات مرة أثيرت قضية الصلاة في جماعة بين وسط مجموعة من الشباب، فقام أحدهم وأنكر ذلك وأتى بقصة حصلت أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه تجاهل أن الموضوع يختلف تمامًا عن الموضوع الذي يتحدث فيه.
في الجمعيات الأهلية والتآمر على الناس: عندما تبدأ فئة من الناس في إنشاء جمعية أهلية، فإنهم يتسارعون، لإنشائها ويعطونها من وقتهم الكثير، وبعد أن تستقر الجمعية –نوعًا ما– يأتي من الصفوف الخلفية بعض الأفراد ليحاولوا أن يطيحوا بالأفراد الموجودين في الصفوف الأمامية، مبررين ذلك أن الأفراد في الصفوف الأمامية غير جديرين بالمسؤولية، فتبدأ المؤامرات وتحاك، وكل ذلك يُبرر من أجل تطوير الجمعية وتحديثها وما إلى ذلك من أمور، ربما تكون بعيدة عن أرض الواقع، ولن ترتاح تلك المجموعة إلا بالتخلص من الرئيس أو نائبه أو غير ذلك، المهم أنهم يتآمرون على موضوع غير جدي.
الجدال الإلكتروني: كثرت في الآونة الأخيرة القروبات والمجموعات الموجودة على الواتساب، وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، والعديد من تلك المجموعات هدفها الرئيسي الجدل والنقاش، فيتناقشون في كل القضايا التي يعرفونها والتي لا يعرفونها، فتارة يتحدثون في الأدوية والأوبئة، وتارة يتحدثون في السياسة والتشريعات، وتارة يتحدثون في الدين والتشريع، وهكذا فيهم يتجادلون ليس للبحث عن الحقيقة وإنما للتحدث من أجل التحدث والتحلطم، فما أن يُطرح موضوع حتى تجد الأفراد يطرحون أفكارهم، فهذا يقول «إني أعتقد» وذلك يقول «لا، أعتقد أن الأمر هكذا»، ثم يتطور النقاش إلى أن يصل إلى أن يتمسك كل فرد بوجهة نظرة ويضع كل المبررات من أجل أن يؤكد أن وجهة نظره هي الصحيحة، وأن بقية الأفراد كلهم على خطأ، والغريب في الموضوع إن كل الذي يتحدثون به مجرد وجهات نظر ليس لها علاقة بالحقيقة أو الواقع لأن أحاديثهم مبنية على وجهات نظر فحسب.
الدين والتسليف: يأتيك شخص تعرفه، ويطلب منك مبلغا من المال على سبيل الدين، وأنت تشعر بحاجته وخاصة في ظل الظروف الراهنة، فتعطيه مبلغا من المال على اتفاق أنه يرجعه بين فترة من الزمن، وينقضي الوقت وأنت تنتظر أن يأتيك بمالك، إلا أنه يتصدد عنك ويتجاهلك وكأنه لا يعرفك، تذهب أنت يمينا فيذهب هو يسارا، وهكذا حتى لا تلتقيان، وتمر الأشهر وتنقضي فترة فوق الفترة المقررة، وتحاول أن تجد له منفذا إلا أنه يتهرب منك، ولكنك تتصل به بالهاتف، فتجده أنه قد غير رقم هاتفه، فتحتار، ولكنك تصر، وفي لحظة ما تجده أمامك لا مفر من التحدث إليك، فتعاتبه لأنه أخلف موعده، فيماطلك ويبرر أنه لا يملك المبلغ الآن، فيطلب مدة أطول، فيماطل ويماطل، فتوسط صديق من أجل التحدث إليه فيرد ببساطة «أنا لا أملك شيئا، وهو يملك فلماذا يطالبني بالدين؟»، وهل هذا مبرر حتى تسرق مال الآخرين.
محطات تلفزيونية تبرر: غدت الأعمال التلفزيونية من سوء في المستوى لدرجة أن الناس سنويًا، نعم سنويًا، يتذمرون من مسلسلاتها وأعمال سيئة تحط من قدرة الإنسان العاقل عن المتابعة أو حتى المشاهدة ولو مرة واحدة.
سنويًا المشاهد العربي يتعرض لضغوط ولغسيل المخ بسبب كل هذا الكم الكبير من الأعمال التي تقدم على الشاشات العربية، وسنويًا يتذمر المشاهد العربي من كل تلك الأعمال، سواء الدرامية التي لا تمس الواقع أو الحقيقة بشيء، أو الأعمال المنوعة التي لا يطيق مشاهدتها أحد، وفي نهاية الموسم تخرج إدارة التلفزيون بإحصائيات وأرقام بأن عدد المشاهدين الذي قاموا بمتابعة برامجها عدد فاق التوقعات، ومن يدري أين الحقيقة؟
وحتى تضفي إدارة التلفزيون أهمية لبرامجها الخالية من القيم والمبادئ تضع مسابقة لأفضل فنان، وأفضل فنانة، وأفضل برنامج تلفزيوني، وما إلى ذلك من كلام، وتقوم هي بوضع الأرقام والقياسات والمؤشرات وفي النهاية تظهر النتائج وتنشرها عبر وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، بأنها هي الأفضل.
ونحن نعلم أن كل تلك مبررات لتسويق منتجاتها الهابطة الخالية من كل القيم والمبادئ، ولكنها ستعاود مسيرتها في رمضان القادم، وكأن شيئا لم يحدث.
وهكذا يستمر سارق الرمان في تبرير أفعاله حتى وإن كانت غير مبررة، والغريب في الموضوع أن الناس الذين يعيشون معه يعلمون أنه سارق وكذاب ومخادع، وأن ما يقوم به أو يقوله أو يفعله ما هو إلا تبرير لما يقوم به، وعلى الرغم من ذلك فهو يعيش تلك الكذبة معتقدًا أن الجميع أغبياء وأنهم يصدقونه.
كم من سارق الرمان يعيش بيننا اليوم، ولا نبرئ أنفسنا، فحتى نحن نكون مثل سارق الرمان في بعض الأحيان، فكر في الأحداث التي تمر عليك يوميًا، فأنت تعمل في عمل، ولكنك في بعض الأحيان تتقاعس وتضع مبررا أن الراتب لا يكفي وتقول: «أنا أعمل بحجم الراتب».
نذهب إلى البقالة أو السوبرماركت فنذهب إلى قسم المكسرات لنشتري بعض المكسرات، فنتذوق من هذا ومن ذلك ونستمتع ببعض الأغذية، حتى وإن كانت الكمية صغيرة وفي النهاية نحن نعلم أنه لم تكن لدينا الرغبة في الشراء من البداية، وإنما نبرر أننا نتذوق فقط.
نضرب الأطفال لأنهم يكذبون، أو ننهرهم لأنهم يريدون شراء المشروبات الغازية، ولكننا نشرب أمامهم تلك النوعية من المشروبات.
ننهر الأطفال، لأننا لا نريد أن يستمروا في اللعب بالهاتف، ولكننا عندما نجلس معهم لا تكف أيدينا عن العبث بالهاتف، وكأننا نرسل لهم رسالة مبطنة أنه يمكننا نحن الذين نستطيع أن نبرر أفعالنا أن نفعل ما نريد، ولكن أنتم لا تستطيعون.
لنعد النظر في حياتنا وحياة من حولنا، ونتأمل حكاية سارق رمان؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك