بقلم: عاطف الصبيحي
العبادة، ليست محصورة بالشعائر كما هو معلوم، والشعائر على مدار التاريخ الرسالي للرسل والأنبياء تغيرت وتبدلت منذ سيدنا نوح إلى أن وصلت إلى سيدنا محمد عليه السلام، وكذلك الشرائع مرت بسلسلة من التطورات على طول الخط الزمني للرسل، وكانت متماشية مع التطور عبر التاريخ، أما الأخلاق فلم يتغير منها شيء، ولم يُنسخ منها شيء، بل تراكمت عبر التاريخ الدعوي لكل الرسل والأنبياء، فما جاء به نوح من قيم، لم ينسخه شعيب، بل زاد عليه، وهكذا حتى نزول الوحي على سيدنا محمد في الغار، فأكمل المنظومة الأخلاقية وأجملها، وصاغها بأحسن ما تكون الصياغة، ومن مصدرها العلوي هذا نكمل ما انتهى به المقال السابق من قيم.
حتى يشيع التآلف والتقارب بين الناس وينحسر النفور بينهم، نبهنا الكتاب الكريم إلى التواضع بقوله تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحا) فالمتبختر المتعالي تنبذه النفوس، وتولي منه هاربة، فهذا توجيه رباني يُقصد به طرد ما ينفر النفوس ويباعد بينها، ليحل محلها التآلف والتقارب.
وزيادة في حرص الكتاب الكريم على تهذيب النفوس وإزالة عوامل الفرقة والنفور أمرنا ربنا بقيمة جليلة، تتجلى في قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس) وهي متكاملة مع القيمة السابقة، وهما قد وردتا في نفس الآية من سورة لقمان، حيث النص الكامل: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا) ويختم الله قوله هذا بتنفير شديد وذلك بقوله: (إن الله لا يحب كل مختال فخور).
وملامح الوجه الأخلاقي للمسلم تزداد إشراقاً من خلال قوله تعالى: (واغضض من صوتك) وقوله تعالى: (واقصد في مشيك) حث متتال من الله للناس باتباع ما يجعلهم مقبولين في نفوس بعضهم البعض، وتنفير مستمر من كل يثير النفوس على بعضها البعض، كتاب كريم يريدها حياة أنيقة وحضارية، وهينة ملؤها المودة والرحمة.
يقول الله تعالى بتوجيه حكيم: (وأعرض عن الجاهلين) وهذه القيمة مسبوقة بقيمتين أُمر النبي الكريم بهما أمراً (خذ العفو وأُمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين) أمران ونهي بآية واحدة، فالإعراض عن الجاهلين، فيه ما فيه من صيانة للنفس والسمو بها عن المهاترات والجدال العقيم، وفيه من توفير الطاقة ما يمكن صرفه في مجال آخر ينفع الناس، وذلك خير من الخوض مع الجاهلين في أحاديث لا تسمن ولا تغني من جوع.
وسورة الحجرات تطفح بالقيم، وتفور بالإرشادات التي من شأنها أن تجعل الحياة صافية بين الناس عموماً، والمسلمين خصوصاً، ولها تأثير إيجابي هائل فيما لو اتبعنا تلك الأوامر والنواهي الواردة في سورة الحجرات، ففيها قول الله تعالى: (ولا يسخر قوم من قوم) وفيها (ولا نساء من نساء) ولعمري السخرية من أهم عوامل الهدم لأسس البنيان الاجتماعي ودعائمه، فأي حياة وأي علائق تلك القائمة على السخرية!، وفي الحجرات نهي عن التنابز بالألقاب والغيبة والتجسس، ويقرر الله المعيار بعد سلسلة من الأوامر والنواهي بأن التقوى هي الأصل وهي المعيار في التفاضل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك