بعد ما يقرب من عامين على الانسحاب الكارثي لقوات الولايات المتحدة من أفغانستان، والذي سبق التدهور السريع للدولة الأفغانية المدعومة من الغرب، ما أدى إلى عودة حركة «طالبان» إلى السلطة، استمرت إدارة الرئيس الأمريكي «جو بايدن» في رفض القبول بمسؤولياتها عن فشلها هناك، والإقرار بالحرج الاستراتيجي الذي تسبب فيه قرارها سواء بالنسبة إليها أو إلى شركائها.
وفي أحدث نقد لقرار الإدارة الديمقراطية، أصدر البيت الأبيض في أبريل 2022، مقتطفًا من تقرير مراجعة أُجريت على القرار، ألقت فيه باللوم على الإدارة الجمهورية للرئيس السابق «دونالد ترامب»، معتبرة أن «بايدن» كان «مقيدًا بشدة» بالقرارات التي اتخذها سلفه، وهو ما وصفه معلقون غربيون بأنه «دليل إضافي» على محاولة الحكومة الأمريكية الحالية استمرار إلقاء اللوم على أخطاء السياسة الخارجية للآخرين.
وقد انتقد «ديفيد لوين»، زميل أول زائر في قسم دراسات الحرب في «كينجز كوليدج»، مؤلف كتاب «الحرب الطويلة قصة أمريكا في أفغانستان»، البيت الأبيض بدعوى إصراره على عدم تحمل مسؤولية قرارته، وإصدار «أعذار مخزية»، رأى أنها أخفقت في تفسير «الفشل الذريع» بقرار الانسحاب من أفغانستان في أغسطس 2021.
ورغم أن تقرير المراجعة يبرر قرار «بايدن» بدعوى «عدم إرسال جيل آخر من الأمريكيين لخوض حرب كان من المفترض أن تنتهي منذ فترة طويلة»، لكن العواقب الاستراتيجية السلبية الكبيرة على الولايات المتحدة من جراء انسحابها السريع، واستعدادها الواضح لترك الحلفاء والشركاء القدامى؛ نال إدانة فورية وقاسية، حيث وصف «جيم إنهوف»، السناتور الجمهوري، الانسحاب، بأنه كارثة كان «يمكن التنبؤ بها وتداركها»، كما أشار «جوشوا كيرتزر»، أستاذ في جامعة هارفارد، إلى أن القرار مثَّل للحلفاء الأمريكيين «مصدرا للتشكيك في مصداقية واشنطن كشريك موثوق به»، بل واعترف الجنرال «مارك ميلي»، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية لاحقًا، أن القرار يمثل «فشلًا استراتيجيًا» للسياسة الخارجية الأمريكية.
كما انتقدت صحيفة «الجارديان» إدارة «بايدن» «لتحملها القليل من المسؤولية عن أفعالها»، بل وهوجم تقرير المراجعة الصادر عن البيت الأبيض؛ لاستناده بشكل انتقائي على المواد التي تم جمعها من المراجعات اللاحقة لقرار الانسحاب، بالإضافة إلى التخلص من التحذيرات المتعددة الصادرة عن المحللين الغربيين بشأن مخاطر الانسحاب الكامل على مستقبل أفغانستان.
وقد سجل «لوين» في كتابه المذكور، كيف جاء قرار «بايدن» «على عكس النصيحة الواضحة للجيش الأمريكي»، حيث أكد «مارك ميلي»، و«لويد أوستن»، وزير الدفاع الأمريكي، والجنرال «كينيث ماكنزي»، قائد القيادة المركزية الأمريكية، في جلسات استماع أمام الكونجرس، أنهم «نصحوا» الرئيس الأمريكي بالاحتفاظ بقوة مكونة مما لا يقل عن 2500 جندي في أفغانستان.
وكان «دان لاموث» و«أليكس هورتون» من صحيفة «واشنطن بوست» قد أشارا في عام 2022، إلى شعور القادة العسكريين الأمريكيين بـ«الإحباط»؛ بسبب فشل البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية في إدراك مستوى التقدم العسكري المطرد لـ«طالبان»، وأنهم «امتنعوا عن تبني عملية تخطيط ملائمة للإخلاء قبل سقوط كابول»، وهو ما أكد عليه الأدميرال البحري «بيتر فاسيلي»، القائد الأعلى للقوات الأمريكية في أفغانستان في ذلك الوقت، الذي اعتبر أن القوات الأمريكية كانت ستظهر «أفضل استعدادًا» لإجراء انسحاب منظم إذا كان صناع السياسة في واشنطن قد انتبهوا إلى مؤشرات ما كان يحدث على الأرض.
وقد قُوبل تقرير المراجعة الصادر عن البيت الأبيض برد فعل عنيف داخل الأوساط السياسية الأمريكية؛ حيث اتهم رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي «مايكل ماكول»، إدارة «بايدن» بمحاولات «تبييض وجهها، وإخفاء فشلها» في أفغانستان، بينما أعرب الرئيس السابق «ترامب» عن غضبه حيال التقرير المذكور من خلال إدانة الحكومة الحالية، واصفًا إياها بأنها مليئة بـ«الحمقى» الذين اتهمهم بـاعتماد لعبة «تضليل جديدة» للتغطية على ما وصفه بـ «عدم الكفاءة» في إدارة الشؤون الداخلية والخارجية على حد سواء.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى تاريخ واشنطن الطويل في إلقاء اللوم على الآخرين على خلفية أخطائها الاستراتيجية، وإظهار حالة معتادة من «عدم المساءلة» تجاه أخطائها، وانتهاكات حلفائها، رغم أن تجاوزات وأخطاء الحكومات الأخرى «ستلحق المزيد من الضرر بسمعة واشنطن الدولية». وفي حالة أفغانستان، أبدى «سام كابرال»، مراسل «بي بي سي»، دهشته من الموجز الصحفي المثير للبيت الأبيض، لأنه يصر على الإفلات وعدم تحمل المسؤولية، حيث أكد الموجز أن الغرض من إصدار تقرير المراجعة «ليس المساءلة».
ولعل الشكوك العالقة حول مصداقية الولايات المتحدة كشريك أمني وحليف جدير بالثقة، لا تزال قائمة بعد مضي عامين من الهزيمة الأفغانية. وعلى الرغم من أن تقرير البيت الأبيض يزعم أنه أجرى مشاورات مكثفة مع عديد من الحلفاء قبل إعلان الانسحاب، لكن القرار «ترك حلفاء واشنطن يواجهون واقعًا مريرًا بشأن مستوى الدعم المستقبلي الذي يمكن أن يتوقعوه من واشنطن»، وهو ما نقله «لوك ماكجي» بشبكة «سي إن إن»، عن وزير الدفاع البريطاني، «بن والاس»، الذي وصف قرار الولايات المتحدة علانية بأنه «خطأ»، وأن المجتمع الدولي «سـيدفع عواقبه».
ولعل ما زاد من حالة الذعر حول قبول الولايات المتحدة بانهيار الحكومة المدعومة من الغرب في كابول، وعودة «طالبان»، هو ما كرره تقرير مراجعة البيت الأبيض الصادر مؤخرا، حول الاقتراحات التي ترددت أن القوات الأفغانية لديها «نقاط قوة» على مستوى التمويل والتسليح بالمقارنة بـ«طالبان»، وأن تلك القوات «ستكون قادرة على القتال بشكل فعال للدفاع عن بلادها»، حيث تم رفض هذه الرواية، من خلال «بايدن» نفسه، الذي أكد أن الجيش الأفغاني «استسلم دون أدنى محاولة للقتال».
وأشار «لوين» في هذا الشأن إلى أن «عدم الثقة في القوات الأفغانية، كان نتيجة لتداعيات الانسحاب الأمريكي العشوائي»، ورحيل ما يقرب من 17 ألفا من الجنود الأمريكيين، ممن قدموا خدمات عسكرية ولوجستية واتصالات للجيش الأفغاني، وهو ما ترك القادة الأفغان لا يعرفون أين كانت تنتشر قواتهم أو معداتهم، وأعرب «لوين» في كتابه عن أسفه لـ «بايدن» شخصيًا جراء ما سماه «ازدراءه الأعمى لأفغانستان والأفغان، بدلًا من رؤيتهم كحلفاء مخلصين قادرين على الثبات والصمود».
ومع الكشف الأخير عن وثائق البنتاجون المسربة، التي أفادت أن وكالات الاستخبارات الأمريكية نفذت عمليات تجسس على حكومات حليفة، بما في ذلك أوكرانيا، فإن ذلك لا يشير فحسب إلى انعدام الثقة من جانب واشنطن في شركائها الدوليين، ولكن مثل هذه العمليات التجسسية لم تعد «صادمة» بالنظر إلى تاريخ واشنطن الراسخ بعدم الثقة في شركائها مهما كانوا، وذلك مثلما ذكر «مايكل كراولي» بصحيفة «نيويورك تايمز».
ويمكن القول هنا، إنه إذا لم تستطع الولايات المتحدة الاعتراف بأخطائها ومحاسبة نفسها عليها، فلا عجب أنها أثبتت أنها غير قادرة وغير راغبة في تحمل المسؤولية عن الانتهاكات التي يرتكبها حلفاؤها أيضًا. وعلى الأخص في حالة إسرائيل، حيث رفضت إدارة «بايدن» بشكل معتاد ممارسة المزيد من الضغط على حكومة «بنيامين نتنياهو» اليمينية المتطرفة لوقف الهجمات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ودحر السياسات القمعية التي تمارس ضدهم.
وبدلاً من ذلك، تدخل وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكين» شخصيًا لعرقلة قرار الأمم المتحدة الذي يدين النشاط الاستيطاني الإسرائيلي، كما عارض البيت الأبيض تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية، بما في ذلك مقتل مراسلة الجزيرة «شيرين أبو عاقلة».
إن الإصرار المستمر لإدارة «بايدن» على رفض تحميل نفسها أو حلفائها، أدنى مساءلة جراء الأخطاء الاستراتيجية التي تُرتكب بسبب قراراتها، أصبحت أمر عاديًا، ومن ثم يمكن تأكيد أن محاولاتها للتنصل من مسؤولية كارثة عام 2021 في أفغانستان، عبر تقرير المراجعة الأخير، قد فشلت بشكل قاطع في تحقيق هدفها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك