العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الإنسان وجوهر الإيمان.. بين الحقيقة والواقع

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ٢٣ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُعد‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬جزئياته‭ ‬‭ ‬سجلا‭ ‬هائلا‭ ‬وموثوقا‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬التاريخ‭. ‬فمنذ‭ ‬لحظة‭ ‬خلق‭ ‬سيدنا‭ ‬آدم‭ ‬حتى‭ ‬بعثة‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تجدها‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬مرورًا‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الأقوام‭ ‬والأنبياء‭ ‬والأحداث‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتمكن‭ ‬أي‭ ‬السجلات‭ ‬أن‭ ‬تذكرها‭ ‬كما‭ ‬ذكرها‭ ‬الخالق‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭.‬

علمًا‭ ‬كما‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬السجل،‭ ‬وهذا‭ ‬الكم‭ ‬من‭ ‬الحكايات‭ ‬والقصص‭ ‬لم‭ ‬ترد‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬لمجرد‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بها‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬عبر‭ ‬وعظات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يستفيد‭ ‬منها‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ،‭ ‬سواءً‭ ‬اليوم‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭.‬

فلو‭ ‬استلينا‭ ‬جزئية‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحكايات‭ ‬وحاولنا‭ ‬أن‭ ‬نستشف‭ ‬منها‭ ‬بعض‭ ‬العبر،‭ ‬وخاصة‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالحقيقة‭ ‬والواقع‭ ‬وطول‭ ‬النظر‭ ‬وقصر‭ ‬النظر،‭ ‬فنرى‭ ‬كيف‭ ‬ستكون؟

والحقيقة؛‭ ‬وهي‭ ‬طول‭ ‬النظر،‭ ‬وهي‭ ‬ببساطة‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬الكذب‭ ‬والخيال‭ ‬والأوهام،‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬يختلط‭ ‬بها‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬التدليس‭ ‬والتزييف‭ ‬لتغييرها‭ ‬فتحولها‭ ‬إلى‭ ‬محض‭ ‬كذب‭.‬

أما‭ ‬الواقع؛‭ ‬فهو‭ ‬قصر‭ ‬النظر،‭ ‬وهو‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭ ‬المرء،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬كذبا‭ ‬أو‭ ‬وهما‭ ‬فصدقها‭ ‬بنفسه‭ ‬وعقله،‭ ‬فاعتقدت‭ ‬أنها‭ ‬حقيقة‭.‬

دعونا‭ ‬بهذا‭ ‬المفهومين‭ ‬نتجول‭ ‬بين‭ ‬بعض‭ ‬الأحداث‭ ‬والحكايات،

فرعون؛‭ ‬عاش‭ ‬فرعون‭ ‬في‭ ‬وهم‭ ‬وواقع‭ ‬كبيرين،‭ ‬وأعتبر‭ ‬أنه‭ ‬إله،‭ ‬وأوهم‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬معه‭ ‬أنه‭ ‬فعلاً‭ ‬إله‭. ‬وعندما‭ ‬بُعث‭ ‬سيدنا‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬للحياة‭ ‬إله‭ ‬غيره‭ ‬وأعظم‭ ‬منه،‭ ‬لذلك‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يفرض‭ ‬واقعه‭ ‬هو‭ ‬بشتى‭ ‬الطرق،‭ ‬ولم‭ ‬يرعو،‭ ‬وبسبب‭ ‬قصر‭ ‬نظره‭ ‬للأمور‭ ‬فجاء‭ ‬تارة‭ ‬بالسحرة‭ ‬وتارة‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬هامان‭ ‬أن‭ ‬يبني‭ ‬له‭ ‬بناء‭ ‬حتى‭ ‬يطلع‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الإله‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬السماء‭. ‬

عاش‭ ‬فرعون‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الثراء‭ ‬والسلطة‭ ‬حتى‭ ‬آمن‭ ‬بكل‭ ‬جوارحه‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬الإله،‭ ‬فرفض‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬له‭ ‬ليس‭ ‬إله‭ ‬وأنه‭ ‬يوجد‭ ‬إله‭ ‬أعظم‭ ‬منه‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يمتلك‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وأنه‭ ‬هو؛‭ ‬فرعون‭ ‬مجرد‭ ‬رجل‭ ‬عادي‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬شيء،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬قصر‭ ‬نظر‭ ‬منه‭.‬

تغلغل‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬عقل‭ ‬فرعون‭ ‬جعله‭ ‬يصارع،‭ ‬ويقتل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬آمن‭ ‬بالحقيقة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬سيدنا‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬أغلق‭ ‬عقله‭ ‬وقلبه‭ ‬ووجدانه‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تتسرب‭ ‬الحقيقة‭ ‬فتزيل‭ ‬ورقة‭ ‬الواقع‭ ‬الرقيقة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭.‬

كانت‭ ‬نظرة‭ ‬فرعون‭ ‬للأمور‭ ‬سطحية‭ ‬وقصيرة‭ ‬المدى‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬ولم‭ ‬يزل‭ ‬بنفسه‭ ‬ورقة‭ ‬الواقع‭ ‬والوهم‭ ‬والكذب‭ ‬الرقيقة‭ ‬لينظر‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬الكبرى،‭ ‬فتصادم‭ ‬معها،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬وهو‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬رشفة‭ ‬هواء‭ ‬أعلن‭ ‬الحقيقة‭ ‬بكل‭ ‬بساطة،‭ ‬ويصف‭ ‬القرآن‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬بقوله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬يونس‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬90‭ (‬وجاوزنا‭ ‬ببني‭ ‬إسرائيل‭ ‬البحر‭ ‬فَأَتْبَعَهُمْ‭ ‬فِرْعَوْنُ‭ ‬وجنوده‭ ‬بَغْيًا‭ ‬وَعَدْوًا‭  ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬أَدْرَكَهُ‭ ‬الغرق‭ ‬قَالَ‭ ‬ءَامَنتُ‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬إِلَهَ‭ ‬إِلَّا‭ ‬الذي‭ ‬ءَامَنَتْ‭ ‬به‭ ‬بنو‭ ‬إسرائيل‭ ‬وأنا‭ ‬مِنَ‭ ‬المسلمين‭)‬،‭ ‬وكانت‭ ‬لحظة‭ ‬انكشاف‭ ‬الحقيقة‭ ‬ولكنها‭ ‬جاءت‭ ‬متأخرة‭.‬

قارون،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أغنى‭ ‬أغنياء‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬زمانه،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬ثرائه‭ ‬كانت‭ ‬مفاتيح‭ ‬خزائنه‭ ‬أثقل‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحملها‭ ‬الرجال‭ ‬الأشداء‭ ‬بسبب‭ ‬ثقلها‭ ‬وضخامتها‭. ‬عاش‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬بكل‭ ‬جوانحه‭ ‬وكيانه‭ ‬وعقله‭ ‬ووجدانه،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يسمع‭ ‬كلام‭ ‬الحقيقة،‭ ‬لم‭ ‬يرفض‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬تعالى‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬الرازق‭ ‬والمالك‭ ‬هو‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬سطوع‭ ‬الحقيقة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬القصص‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬78‭ (‬قَالَ‭ ‬إنَّمَا‭ ‬أوتِيتُهُ‭ ‬عَلَى‭ ‬عِلْمٍ‭ ‬عِنْدِي‭)‬،‭ ‬وهنا‭ ‬اختلطت‭ ‬كل‭ ‬المفاهيم‭ ‬لديه،‭ ‬فهو‭ ‬واقع‭ ‬ممزوج‭ ‬بغرور‭ ‬وتكبر‭ ‬وكذلك‭ ‬عودة‭ ‬ورقة‭ ‬الواقع‭ ‬الرقيقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تغطي‭ ‬الحقيقة‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬والعقول‭ ‬التي‭ ‬تتوهم‭ ‬أنها‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وهنا‭ ‬يتجلى‭ ‬قصر‭ ‬النظر‭ ‬لدى‭ ‬قارون‭.‬

ثراء‭ ‬ما‭ ‬بعده‭ ‬ثراء،‭ ‬وحتى‭ ‬يخضع‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬حوله،‭ ‬فإنه‭ ‬قام‭ ‬بالخروج‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬بكامل‭ ‬زينته‭ ‬وثرائه،‭ ‬خرج‭ ‬عليهم‭ ‬بكل‭ ‬مجوهراته‭ ‬وملابسه‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمتلكها‭ ‬إلا‭ ‬هو،‭ ‬ففُتن‭ ‬به‭ ‬الناس،‭ ‬وتمنوا‭ ‬أن‭ ‬يملكوا‭ ‬جزءا‭ ‬مما‭ ‬أوتي‭ ‬قارون‭. ‬وكان‭ ‬قارون‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬وكأنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬للذين‭ ‬تبينوا‭ ‬الحقيقة،‭ ‬إنه‭ ‬أنا‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة،‭ ‬أنا‭ ‬أقوى‭ ‬رجل‭ ‬فيكم‭ ‬لأني‭ ‬أثرى‭ ‬منكم‭ ‬جميعًا،‭ ‬أما‭ ‬أنتم‭ ‬فلا‭ ‬تكادون‭ ‬أن‭ ‬تكونوا‭ ‬شيئا‭.‬

ولكن‭ ‬أثناء‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬العنجهية‭ ‬والجبروت،‭ ‬تبرز‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة،‭ ‬فتحرق‭ ‬ورقة‭ ‬الواقع‭ ‬الرقيقة‭ ‬والهزيلة‭ ‬والشفافة،‭ ‬وحتى‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬نظرتهم‭ ‬قصيرة‭ ‬المدى‭ ‬والذين‭ ‬تمنوا‭ ‬مكانه‭ ‬بالأمس،‭ ‬اكتشفوا‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬كله‭.‬

ويتكرر‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬الهزيل،‭ ‬عند‭ ‬صاحب‭ ‬الجنتين‭ ‬المذكور‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الكهف،‭ ‬وتستمر‭ ‬حتى‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬المغيرة،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قاب‭ ‬قوسين‭ ‬أو‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬رفض‭ ‬التفكير‭ ‬الحر‭ ‬لذلك‭ ‬انجرف‭ ‬نحو‭ ‬الواقع‭ ‬الجاهلي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬قصر‭ ‬نظره،‭ ‬قال‭ ‬تعالي‭ ‬وهو‭ ‬يصف‭ ‬لحظة‭ ‬اقترابه‭ ‬من‭ ‬الحقيقة‭ ‬والتفكير‭ ‬الحر‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬ص‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬67‭ (‬ذرني‭ ‬ومن‭ ‬خلقت‭ ‬وحيدًا‭ ‬وجعلت‭ ‬له‭ ‬مالًا‭ ‬ممدودًا‭ ‬وبنين‭ ‬شهودًا‭ ‬ومهدت‭ ‬له‭ ‬تمهيدًا‭ ‬ثم‭ ‬يطمع‭ ‬أن‭ ‬أزيد‭ ‬كلا‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬لآياتنا‭ ‬عنيدًا‭ ‬سأرهقه‭ ‬صعودًا‭). ‬

مع‭ ‬أن‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلا‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬المجرد‭ ‬والمنطقي‭ ‬والمنهجي‭ ‬وبُعد‭ ‬نظر،‭ ‬ربما‭ ‬نجد‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬القصص‭ ‬التالية‭:‬

أهل‭ ‬الكهف،‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭: (‬إنَّهُمْ‭ ‬فِتْيَةٌ‭ ‬آمَنُوا‭ ‬بِرَبِّهِمْ‭)‬،‭ ‬لم‭ ‬يوضح‭ ‬لنا‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬فتية‭ ‬الكهف،‭ ‬هل‭ ‬هم‭ ‬أغنياء،‭ ‬سادة،‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬أمر‭ ‬آخر،‭ ‬ولكننا‭ ‬نعرف‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬أصحاب‭ ‬بُعد‭ ‬نظر‭ ‬فرفضوا‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬كانوا‭ ‬يعيشون‭ ‬فيه،‭ ‬وعرفوا‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة،‭ ‬وعرفوا‭ ‬أن‭ ‬نفوسهم‭ ‬تتوق‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الحقيقة‭ ‬الكبرى،‭ ‬وهذا‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬الآيات‭ ‬التالية‭ (‬وَرَبَطْنَا‭ ‬عَلَى‭ ‬قُلُوبِهِمْ‭ ‬إذْ‭ ‬قَامُوا‭ ‬فَقَالُوا‭ ‬رَبُّنَا‭ ‬رَبُّ‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَالْأرْضِ‭ ‬لَن‭ ‬نَّدْعُوَ‭ ‬مِن‭ ‬دُونِهِ‭ ‬إلَهًا‭ ‬لَّقَدْ‭ ‬قُلْنَا‭ ‬إذًا‭ ‬شَطَطًا‭ (‬14‭) ‬هَؤُلَاءِ‭ ‬قَوْمُنَا‭ ‬اتَّخَذُوا‭ ‬مِن‭ ‬دُونِهِ‭ ‬آلِهَةً‭  ‬لَّوْلَا‭ ‬يَأتُونَ‭ ‬عَلَيْهِم‭ ‬بِسُلْطَانٍ‭ ‬بَيِّنٍ‭ ‬فَمَنْ‭ ‬أظْلَمُ‭ ‬مِمَّنِ‭ ‬افْتَرَى‭ ‬عَلَى‭ ‬اللَّهِ‭ ‬كَذِبًا‭ (‬15‭). ‬

كان‭ ‬قومهم‭ ‬يعيشون‭ ‬الواقع،‭ ‬وكان‭ ‬أهل‭ ‬الكهف‭ ‬يعرفون‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ربما‭ ‬حدث‭ ‬تفاعل‭ ‬وتصادم‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬أهل‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وربما‭ ‬عندما‭ ‬وصلت‭ ‬الأمور‭ ‬ذروتها‭ ‬قرروا‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬الأهل‭ ‬والأرض‭ ‬وترك‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬خلفهم‭ ‬ووراء‭ ‬ظهورهم،‭ ‬فكل‭ ‬تلك‭ ‬الأمور‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬يتمسك‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬إن‭ ‬عرف‭ ‬الحقيقة،‭ ‬وخرجوا،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لم‭ ‬يبتعدوا،‭ ‬فكانوا‭ ‬آية‭ ‬للحقيقة‭ ‬الواعية‭ ‬والراغبين‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬الحر‭ ‬الناضج،‭ ‬والذين‭ ‬يمتلكون‭ ‬بُعد‭ ‬النظر‭.‬

سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام،‭ ‬منذ‭ ‬الصغر‭ ‬وسيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬يشعر‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفسه‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬هي‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬الواقع‭ ‬وتلك‭ ‬الأصنام‭ ‬التي‭ ‬يعبدها‭ ‬قومه،‭ ‬فلا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الحقيقة‭ ‬أمر‭ ‬آخر،‭ ‬فذهب‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭ ‬بين‭ ‬النجوم‭ ‬والسماء‭ ‬والأرض،‭ ‬وعندما‭ ‬اتضحت‭ ‬له،‭ ‬وانبلج‭ ‬فجر‭ ‬الحقيقة‭ ‬أمام‭ ‬عينيه،‭ ‬وقف‭ ‬أمام‭ ‬قومه‭ ‬كلهم‭ ‬ليخبرهم‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬يعيشون‭ ‬فيه‭ ‬مزيف،‭ ‬وأن‭ ‬الحقيقة‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬تمامًا‭ ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬الأصنام‭ ‬لا‭ ‬تتكلم‭ ‬ولا‭ ‬تنطق‭ ‬ولا‭ ‬تفكر،‭ ‬فكيف‭ ‬يخضع‭ ‬لها‭ ‬الإنسان‭ ‬المفكر‭ ‬الحر‭ ‬والمتخذ‭ ‬القرار‭.‬

وعندما‭ ‬بلغت‭ ‬الأمور‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التصادم‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والواقع،‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬يصفها‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الأنبياء‭ (‬إذْ‭ ‬قَالَ‭ ‬لِأبِيهِ‭ ‬وَقَوْمِهِ‭ ‬مَا‭ ‬هَذِهِ‭ ‬التَّمَاثِيلُ‭ ‬الَّتِي‭ ‬أنتُمْ‭ ‬لَهَا‭ ‬عَاكِفُونَ‭ (‬52‭) ‬قَالُوا‭ ‬وَجَدْنَا‭ ‬آبَاءَنَا‭ ‬لَهَا‭ ‬عَابِدِينَ‭ (‬53‭) ‬قَالَ‭ ‬لَقَدْ‭ ‬كُنتُمْ‭ ‬أنتُمْ‭ ‬وَآبَاؤُكُمْ‭ ‬فِي‭ ‬ضَلَالٍ‭ ‬مُّبِينٍ‭ (‬54‭) ‬قَالُوا‭ ‬أجِئْتَنَا‭ ‬بِالْحَقِّ‭ ‬أمْ‭ ‬أَنتَ‭ ‬مِنَ‭ ‬اللَّاعِبِينَ‭ (‬55‭) ‬قَالَ‭ ‬بَل‭ ‬رَّبُّكُمْ‭ ‬رَبُّ‭ ‬السَّمَاوَاتِ‭ ‬وَالْأرْضِ‭ ‬الَّذِي‭ ‬فَطَرَهُنَّ‭ ‬وَأنَا‭ ‬عَلَى‭ ‬ذَلِكُم‭ ‬مِّنَ‭ ‬الشَّاهِدِينَ‭ (‬56‭). ‬

في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬وحتى‭ ‬تظل‭ ‬عقول‭ ‬أصحاب‭ ‬النظر‭ ‬القصير‭ ‬تحت‭ ‬سيطرة‭ ‬الواقع‭ ‬طلبوا‭ ‬أن‭ ‬يوقدوا‭ ‬له‭ ‬نارا‭ ‬عظيمة‭ ‬بهدف‭ ‬إحراقه‭ ‬وإحراق‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬بها،‭ ‬ولكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬كانت‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬النار‭. ‬كان‭ ‬سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬يعلم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬منطق‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬النار‭ ‬سوف‭ ‬تحرقه‭ ‬إن‭ ‬وضع‭ ‬رجليه‭ ‬فيها،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬كان‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬صاحب‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة‭ ‬سوف‭ ‬ينجيه،‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬يريدها‭ ‬هو‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬فتجلت‭ ‬الحقيقة‭ ‬وتبخر‭ ‬الواقع‭.‬

وسيدنا‭ ‬العظيم‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬لم‭ ‬يعش‭ ‬الحقيقة‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكنه‭ ‬انصهر‭ ‬فيها،‭ ‬فكانت‭ ‬حياته‭ ‬ووجدانه‭ ‬وتفكيره‭ ‬كلها‭ ‬تنطق‭ ‬بالحقيقة‭. ‬فمنذ‭ ‬اللحظة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬صدع‭ ‬بالحقيقة‭ ‬أمام‭ ‬قومه‭ ‬وحتى‭ ‬لحظة‭ ‬ارتقائه‭ ‬إلى‭ ‬الرفيق‭ ‬الأعلى،‭ ‬فهو‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الحقيقة،‭ ‬تلك‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬إنه‭ (‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬الله‭ ‬وأن‭ ‬محمدًا‭ ‬رسول‭ ‬الله‭). ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬حدث‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬معاناة‭ ‬وعناد‭ ‬الواقع‭ ‬الأليم‭ ‬والمرير،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬ولحظات‭ ‬ضعفه‭ ‬البشري‭ ‬كان‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬الحقيقة‭ ‬المطلقة،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬رفع‭ ‬يديه‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬وقال‭: (‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بك‭ ‬عليّ‭ ‬غضب‭ ‬فلا‭ ‬أبالي،‭ ‬ولكن‭ ‬عافيتك‭ ‬هي‭ ‬أوسع‭ ‬لي،‭ ‬أعوذ‭ ‬بنور‭ ‬وجهك‭ ‬الذي‭ ‬أشرقت‭ ‬له‭ ‬الظلمات‭ ‬وصلح‭ ‬عليه‭ ‬أمر‭ ‬الدنيا‭ ‬والآخرة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تنزل‭ ‬بي‭ ‬غضبك،‭ ‬أو‭ ‬يحل‭ ‬عليّ‭ ‬سخطك،‭ ‬لك‭ ‬العتبى‭ ‬حتى‭ ‬ترضى،‭ ‬ولا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬إلا‭ ‬بك‭).‬

وفي‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬وفي‭ ‬حديث‭ ‬آخر‭ ‬طويل‭ ‬نقتبس‭ ‬هذه‭ ‬الجزئية‭ ‬قال‭: (‬فنظرتُ‭ ‬فإذا‭ ‬فيها‭ ‬جبريلُ‭ ‬عليهِ‭ ‬السَّلامُ‭ ‬،‭ ‬فَناداني‭ ‬فقالَ‭: ‬يا‭ ‬محمَّدُ،‭ ‬إنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬عزَّ‭ ‬وجلَّ،‭ ‬قد‭ ‬سمِعَ‭ ‬قولَ‭ ‬قومِكَ‭ ‬لَكَ،‭ ‬وما‭ ‬ردُّوا‭ ‬عليكَ،‭ ‬وقد‭ ‬بعثَ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬ملَكَ‭ ‬الجبالِ‭ ‬لتأمرَهُ‭ ‬بما‭ ‬شئتَ‭ ‬فيهِم‭ ‬قالَ‭: ‬فَناداني‭ ‬ملَكُ‭ ‬الجبالِ‭: ‬فسلَّمَ‭ ‬عليَّ،‭ ‬ثمَّ‭ ‬قالَ‭: ‬يا‭ ‬محمَّدُ‭: ‬إنَّ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬عزَّ‭ ‬وجلَّ‭ ‬قد‭ ‬سمِعَ‭ ‬قولَ‭ ‬قومِكَ‭ ‬لَكَ،‭ ‬وأَنا‭ ‬ملَكُ‭ ‬الجبالِ،‭ ‬وقد‭ ‬بعثَني‭ ‬ربُّكَ‭ ‬إليكَ‭ ‬لتأمرَني‭ ‬أمرَكَ،‭ ‬وبما‭ ‬شئتَ،‭ ‬إن‭ ‬شئتَ‭ ‬أن‭ ‬أُطْبِقَ‭ ‬عليهِمُ‭ ‬الأخشبَينِ‭ ‬فعلتُ،‭ ‬فقالَ‭ ‬لَهُ‭ ‬رسولُ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬صلَّى‭ ‬اللَّهُ‭ ‬عليهِ‭ ‬وسلَّمَ‭: ‬بل‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬يُخْرِجَ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬مِن‭ ‬أصلابِهِم‭ ‬مَن‭ ‬يعبدُ‭ ‬اللَّهَ،‭ ‬لا‭ ‬يشرِكُ‭ ‬بِهِ‭ ‬شيئًا‭). ‬وهكذا‭ ‬هم‭ ‬العظماء‭ ‬أصحاب‭ ‬بُعد‭ ‬النظر‭ ‬الذين‭ ‬يؤمنون‭ ‬بالحقيقة‭.‬

والآن،‭ ‬هل‭ ‬نحن‭ ‬نعيش‭ ‬الواقع‭ ‬أو‭ ‬الحقيقة؟‭ ‬الأمر‭ ‬متروك‭ ‬لك‭.‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا