تشير التجارب التنموية الناجحة المعاصرة إلى أهمية التعليم في نهضتها وبلوغ ما وصلت إليه من تقدم وتميز، فالتعليم بمختلف مراحله في مقدمة المحركات التنموية المستدامة المهمة، ولا سيما التعليم الجامعي، فهو منطلق الإبداع وموئل المعرفة وركيزة بناء القادة والمبدعين، منه وفيه تترسخ سياسات الإصلاح وتتجذر مبادئه، وتمتد وتتفاعل علاقاته التشابكية مع القطاعات الإنتاجية والخدمية في المجتمع، فلا قوة ولا تأثير حيوي للإصلاح إن لم يبدأ بإصلاح التعليم، لأنّ إصلاحه فيه صلاح للحاضر والمستقبل، به يتعزز أمن الوطن ويتماسك بناؤه واستقراره وسلمه الاجتماعي وتصقل الثقافة الوطنية وتعمم مدركاتها التشاركية بعيدا عن عوامل التفتيت والتجزئة التي تنمو في مجتمعات الجهل والتخلف. فالتقدم في ميادين العلم والاقتصاد والتقنية، بابه التعليم، حيث تعد مؤسسات التعليم، ولا سيما العالي (المعاهد والجامعات) مصانع للعلم والمعرفة والابتكار، إضافة إلى أنها سوق عمل نوعي على قدر عال من التنافسية. ومراكز ومخابر نهضوية لخدمة المجتمع الذي تتوطن به، فتنميه معرفيا ومهنيًا وسلوكيا، وتأصله فكريا، وترتقي بمختلف مفاصله بشكل أو بآخر، ليس من خلال التعليم المجرد فحسب، بل عبر نشاطاتها الموازية للتعليم كالتدريب والتأهيل وخدمة وتطوير السوق كمؤسسات ونظم وأفراد. وتسهم بشكل وافر بإعادة تنميط البيئة الخارجية، عبر أدواتها المتعددة كتنظيم المؤتمرات والندوات والدورات، والملتقيات الثقافية والتخصصية، والشراكة بين مراكزها البحثية ووحداتها المتخصصة بخدمة المجتمع ومؤسساته المتعددة، وغيرها من المهام التي تقوم بها في مجالات الإعلام والثقافة والرياضة والصحة والفن والتجارة والصناعة وغيرها، ناهيك عن دورها البحثي في حل المشكلات ومواجهة التحديات المجتمعية واقتراح خطط التطوير والنهضة في عموم الدولة. علاوة على ما تنتجه مواردها البشرية من براءات الاختراع والابتكارات والكتب والدراسات، وبذلك فإنها شريك تنموي مهمًّ ومستدام للمجتمعات المحلية خاصة وللدولة التي تنشأ فيها عامة.
ويتعاظم الدور التنموي للجامعات والمعاهد حينما تسهم في جذب عشرات الآلاف من الطلبة من خارج دولها، حيث تعزز عنصر الطلب على منتجها العلمي والاقتصادي وتحرك جميع قطاعاتها التنموية، الخدمية والإنتاجية، فينعكس في تحقيق قيمة مضافة تعزز من دخلها القومي وتوسع من فرص العمل لأبنائها، وحيث إنَّ حكومة المملكة العربية السعودية الرشيدة ما فتئت تدعو وتوجه الوزارات والهيئات التنفيذية إلى تشجيع الاستثمار وإبداء التسهيلات وتبسيط الإجراءات لتسريع وتيرة نموه، واستقطاب المعارض الدولية والندوات والمؤتمرات الإقليمية والعالمية من أجل تحقيق أكبر قيمة مضافة ممكنة إلى الاقتصاد الوطني، فإنّ دعم واحتضان وإطلاق الاستثمار في الجامعات الأهلية إلى جنب الجامعات الحكومية، وإتاحة الفرصة أمامها لجذب واستقطاب الطلبة من مختلف دول العالم، سيحقق عائدا اقتصاديا وماليا واعتباريا وطنيا كبيرا، خاصة إن وزارة التعليم وفي ضوء توجيهات رؤية المملكة 2030 أرست قواعد متينة تشريعية وتنظيمية وأكاديمية ولوجستية للجامعات الأهلية، تعد إصلاحا منهجيا لقطاع التعليم, وبما يسهم في تحريك مختلف مفاصل الاقتصاد الوطني. وحيث إنَّ الجامعات تختلف في إمكاناتها وقدراتها، وتتباين في سرعتها على تحقيق مستهدفات رؤية المملكة لقطاع التعليم، لذا وقع اختيارنا بعد دراسة استطلاعية ومعايشة ميدانية على واحدة من الجامعات الأهلية الناشئة في المملكة العربية السعودية وهي (كليات عنيزة الأهلية) باعتبارها مثالا مميزا لأثر رؤية المملكة 2030 على التعليم العالي الأهلي، فهي على الرغم من أن عمرها لم يتجاوز السبع سنوات، إلا أن لديها من المزايا والممكنات، التي قد لا تتوفر لجامعات أخرى أسبق منها عمرا، لذا سنسلط الضوء على عناصر التميز في هذه الكليات والأساليب الإبداعية التي اعتمدتها لمواكبة وإنفاذ توجهات رؤية المملكة من خلال خطط واقعية وبرامج ديناميكية، لم يقتصر أثرها على بيئتها الجامعية، بل امتد لإحداث أثر بارز في بيئتها المحلية مكنها من تحقيق ميزة تنافسية تميزها عن غيرها من الجامعات، لتكون نموذجا يمكن أن يقتدى به في الجامعات الأهلية الخليجية، ولا يخفى على القارئ الكريم أهمية محاكاة النماذج التعليمية الخليجية المميزة والاستفادة من تجاربها، وعدم الاقتصار على ملاحقة النماذج الأوروبية أو الآسيوية، خاصة وأن البيئة العربية الخليجية بيئة واحدة، تشترك في أغلب المزايا والتحديات والمؤثرات، وعليه فإن تسليط الضوء على هذه التجربة يحقق قيمة مضافة تسهم في ترصين تجارب التعليم الجامعي الأهلي في دول مجلس التعاون الخليجي، وهذا ما سنتناوله بعون الله وتوفيقه من خلال عدد من المقالات، بدءا بالتعريف بنشأة التعليم العالي الأهلي في المملكة والمعوقات التي واجهته، وآليات الإصلاح التي تم اعتمادها للنهوض به وتجاوز تلك المعوقات وصولا إلى رؤية المملكة العربية السعودية 2030، وكيف نظرت إليه، والمبادرات التي أطلقتها لتعزيزه.
{ أكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك