دولة بجيشين هي بالتأكيد دولة برأسين. أما أن يُقال إن أحدهما وطني فذلك أمر يصعب التثبت منه. ولكن ما من ضرورة وطنية توجب إنشاء جيشين يتجسس أحدهما على الآخر من أجل ألا يغلبه.
سيكون الدفاع عن حدود الوطن وهي المهمة الرئيسية للجيش غائبة لدى الطرفين اللذين يبني كل واحد منهما وجوده على حساب الآخر. فوجود جيشين يستدعي وجود وطنين وشعبين ومصيرين ومستقبلين وأرضين وسلاحين وقائدين.
بوجود جيشين على أرض واحدة فإن فكرة الحرب ليست مستبعدة. فالحروب هي مهنة الجيوش وإن كان هناك حديث عن الإعمار فإنه يرد من جانب الاستثناء لا القاعدة.
لم يخرج السودان من عنق الزجاجة ولن يتأتى له القيام بذلك لأسباب كثيرة في مقدمتها وجود جيشين. كان متوقعا، بل هو أمر طبيعي أن يدخل الجيشان في حرب تقضي على أمل تحرر السودان من زمنه المغلق.
الحكاية تاريخية. لقد ترك جعفر النميري وراءه دولة معاقة، كانت جماعة الإخوان التي احتضنها في نهاياته تحيط بها وتتوق منذ زمن بعيد إلى الهيمنة عليها.
هناك خلط للأوراق لم يستطع الشعب في غالبيته أن يفكك أسراره ويقبض على مفاتيحه. أما حين قفز حسن البشير إلى السلطة فقد كان مرشده حسن الترابي حاضرا لكي يرسي دعائم دولة إخوانية لم تتراجع حتى بعد أن تم التخلص من الترابي بنفيه إلى الخارج.
في ظل الدولة الإخوانية ارتكبت المليشيات وهي جيش لا ينقصه شيء أبشع المجازر في حق سكان إقليم دارفور. ما نفع أن يُحاكم البشير في الجنائية الدولية والمليشيات التي ارتكبت جرائمه لا تزال تعمل على الأرض.
هل كان البشير الرأس المدبر؟ أشك في ذلك. فالمسألة لم يخترعها البشير وإن تبناها. تتخطاه المسألة وتتخطى زمنه وهي تعود إلى موقف معاد لوجود دولة قوية قادرة على تصريف شؤون مواطنيها بإرادة مستقلة من غير أن يكون هناك خوف من جيش يمكن أن ينقلب عليها في أيّ لحظة.
لقد وعد العسكر المدنيين بالشراكة فإذا بهم يتقاتلون في ما بينهم. وهو ما يعني أن السودان بغض النظر عن وعوده سيظل عاجزا عن ضبط ساعته، إما أن يرقد السوداني في انتظار فرج يأتيه من الغيب أو ينفجر ليصنع مشهدا انتحاريا.
ومَن يصدّق أن حربا بين جيشي السودان يمكن أن تقوم من غير أن تكون هناك مصالح لدول كبرى فهي لا تعرف ما السودان. وقد تجهل الأغلبية من السودانيين وسط ذهول الحرب أن بلادهم غنية بالمعادن النفيسة التي يسيل لها لعاب الدول الكبرى.
هل يلعب الجيشان دور الحرس الذي يدافع عن مصالح قوى مختلفة، بما يؤكد أن الحرب الأهلية بمفهومها التقليدي قد تم استبعادها لصالح حرب بالوكالة؟
السودان وشعبه هما ضحية تاريخه السياسي الحديث الذي تدخلت في بنائه مصالح دول قررت أن ترعى مصالحها في ذلك البلد بسرية مطلقة. الخلاف على السلطة مسألة يمكن تداركها من غير الدخول في حرب تعقّد المشهد السياسي. فمن الثابت ألا أحد سينتصر في الحرب. ولكن هناك مَن سيفرض شروطه. وهو بالتأكيد لن يكون سودانيا. الجيشان أداتان لاستعمار من نوع مختلف. هو استعمار المصالح. غير أن هناك فجوة في حياة السودانيين تمنعهم من رؤية الحقيقة وهي الفجوة الإخوانية.
يقف الإخوان بين السودانيين ورؤية الحقيقة لأنهم يستفيدون من صراع يضعف القوى السياسية المحيطة بهم ويبقيهم أقوياء. يحلم الإخوان في الاستيلاء على السلطة للتفاوض مع الدول الكبرى لإدارة مصالحها في السودان.
يضحك البعض على نفسه حين يتخيل أن الصراع بين جيشي السودان إنما هو جزء من الصراع على السلطة. لقد انتقل حميدتي والبرهان من المشاركة إلى الصراع المسلح. لم يقع ذلك بالصدفة. سلسلة من العلاقات المعقدة تقف وراء ذلك الصراع لا تمتّ بصلة لصراع على السلطة يمكن أن يكون شعارا زائفا. فالسلطة مسألة حُسمت في ما بينهما منذ سنوات كما هو معروف.
بالحرب التي يخوضها جيشا السودان تضع الدول الكبرى مصالحها فوق مصير الشعوب. وما من حقيقة سياسية داخلية يمكن أن تكون دليلا للوصول إلى جوهر أزمة سودانية المعنى. أزمة السودانيين أنهم صاروا حرسا على أرضهم لمصالح الدول الكبرى وهو يحاربون دفاعا عن تلك المصالح.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك