ما بين الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان عام 2021 واندلاع الصراع المسلح في السودان العام الحالي 2023 وجدت دول الخليج العربي ذاتها مجدداً أمام تحدي إدارة الأزمات، صحيح أن لدول الخليج العربي خبرة ممتدة في مواجهة الأزمات الأمنية الإقليمية والتعامل معها على مدى عقود مضت مثل الثورة الإيرانية عام 1979 والحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988، ثم غزو وتحرير الكويت عام 1991 وصولاً إلى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وتداعياته الإقليمية، إلا أن الأمر المهم هو أن تشابك المصالح وخاصة على النطاق الإقليمي قد أكد حتمية أن يكون لدى الدول استراتيجيات مسبقة لإدارة أزمات إقليمية لن يكون أمنها القومي بمنأى عن تداعياتها وهذا هو جل المقال.
إذ لم تكن عبارات الشكر والتقدير التي وجهها الرئيس الأمريكي جو بايدن لبعض دول الخليج العربي في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وكذلك إجلاء الدبلوماسيين الأمريكيين من السودان سوى اعتراف بالدور الذي اضطلعت به بعض من تلك الدول خلال هاتين الأزمتين، فخلال الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان أعلنت بعض دول الخليج العربي تخصيص رحلات عبر ناقلاتها الوطنية ومطاراتها للمساهمة في إجلاء الدبلوماسيين والرعايا الأجانب، بالإضافة إلى استضافة عدد كبير من الأفغان في طريقهم لدخول دول أخرى وتقديم كل المساعدات الإنسانية لهم، وخلال الأحداث الجارية في السودان لعبت القوات البحرية السعودية دوراً محورياً، فحتى كتابة هذه السطور استقبلت قاعدة الملك فيصل البحرية في جدة أكبر ثالث عملية إجلاء من السودان من خلال السفينة «أمانة» التي أقلت 1687 شخصاً من السودان ينتمون إلى 58 جنسية وهو الأمر الذي كان محل تقدير وإشادة من الرئيس الأمريكي جو بايدن حيث وجه الشكر إلى المملكة العربية السعودية إلى جانب دول أخرى بالقول: «إن مساعداتها كانت حاسمة لنجاح عمليتنا»، فضلاً عن تقدير الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية جاسم محمد البديوي الذي أشاد «بالدعم اللوجستي الكبير الذي قدمته المملكة في عملية إجلاء رعاياها ورعايا عدد من الدول الخليجية والشقيقة والصديقة، وعدد من المدنيين والدبلوماسيين والمسؤولين الدوليين».
وفي تقديري أن الدور الخليجي الملحوظ تجاه هاتين الأزمتين يعكس دلالات ذات أبعاد وطنية وإقليمية ودولية.
فعلى الصعيد الوطني، مع أن الأزمة خارج نطاق منطقة الخليج العربي فإن أزمات من هذا النوع وما ترتبه من تداعيات تعتبر اختباراً لقدرات الدول ووفقاً لطبيعة الأزمة وتعقيدات المشهد الإقليمي فإن العبء الأكبر كان على القوات البحرية بما يعنيه ليس فقط ضرورة اهتمام الدول بتطوير قدراتها في كل القطاعات ولكن أيضاً التدريب على إدارة مثل تلك الأزمات والتي تكتنفها صعوبات عديدة بالنظر إلى أن العمل في البحار وخلال الأزمات له آليات وقواعد ومتطلبات تختلف جذرياً عن البر والجو، ويعيد ذلك التأكيد مجدداً على أهمية القوات البحرية ودورها الآخذ في التنامي خلال السنوات القادمة.
وإقليمياً أعادت أزمة السودان تأكيد ثلاثة أمور الأول: الارتباط الوثيق بين أمن دول الخليج العربي وأمن القرن الإفريقي عموماً، بل إن مفهوم الأقاليم ذاته قد شهد تغيراً كما أشرت إلى ذلك في مقالات سابقة، والثاني: في ظل حالة التشابك والتداخل بين الدول التي تتكون منها الأقاليم وخاصة تلك التي تتمتع بأهمية استراتيجية لدى دول العالم فإن قوة الأمن الإقليمي تنبع من قوة الوحدات المكونة له بما يعنيه ذلك من أن التدهور الأمني في إحدى دول الإقليم سوف يتجاوز حدودها لتطال آثاره دول الإقليم بأكمله ليس أقلها مشكلة اللاجئين وما ترتبه من أعباء مالية ولوجستية على دول الجوار، وقد بدت المؤشرات الأولى لذلك من خلال موجات الفارين من ويلات الحرب بالسودان على الحدود مع كل من تشاد ومصر ومن ثم فإن إدارة تداعيات الأزمات الإقليمية يكتسب أهمية بالغة، والثالث: احتمالات تسلل العناصر الإرهابية عبر الحدود وخاصة مع الدول التي تشهد صراعات مماثلة في الوقت ذاته، فعلى سبيل المثال للسودان حدود برية مع ليبيا تزيد على 380 كم، وتشارك السودان عموماً الحدود البرية مع 7 دول وهي مصر وليبيا شمالاً، وجنوب السودان جنوباً، وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى غرباً، وإثيوبيا وإريتريا شرقاً، ويفصل البحر الأحمر السودان عن المملكة العربية السعودية، حيث تبلغ السواحل السودانية على البحر الأحمر أكثر من 700 كم من مصر شمالاً حتى إريتريا جنوباً.
وعلى المستوى العالمي، في تصوري أن الأزمتين الأفغانية والسودانية قد عكستا عدة حقائق مهمة منها أن دول الخليج العربي تضطلع بدور مهم في الحفاظ على الأمن الإقليمي من خلال شراكاتها مع القوى الكبرى وذلك على نحو مغاير لما دأبت عليه بعض الكتابات الغربية من أن هناك اعتمادا كبيرا من تلك الدول على الدول الغربية في قضايا الدفاع، صحيح أن الشراكات الغربية لا تزال مهمة في هذا الشأن بيد أن هناك دورا خليجيا ملحوظا خلال الأزمات الإقليمية كان كاشفاً لقدرات دول الخليج العربي خلال تلك الأزمات، من ناحية ثانية فإنه في ظل انحسار دور المنظمة الأممية عن تسوية عديد من الصراعات في العالم سوى من خلال الجوانب الإنسانية، فضلاً عن انشغال القوى الكبرى بالصراع في أوكرانيا فإن ذلك يعزز من ضرورة بل حتمية تفعيل دور منظمات الأمن الإقليمي لتسوية تلك الصراعات التي تمثل تهديداً للأمن الإقليمي والعالمي على حد سواء وهو ما أكدته تداعيات الأزمة السودانية الراهنة.
وعود على ذي بدء ومع أهمية الدور الذي اضطلعت به دول الخليج العربي تجاه بعض الأزمات، فإنه لا تزال هناك ثمة حاجة إلى تطوير آلية مشتركة لمواجهة تداعيات الأزمات الإقليمية وخاصة في ظل وقوع دول الخليج العربي ضمن محيط إقليمي مضطرب أخذاً في الاعتبار الرؤية الشاملة للأزمات التي قد تتضمن أزمات تلوث بحري واسع النطاق نتيجة حادث طبيعي أو متعمد، بالإضافة إلى التسربات الإشعاعية من بعض المفاعلات النووية في دول الجوار، ناهيك عن إمكانية خروج الصراع عن السيطرة في إحدى تلك الدول، ولا شك أن التمرينات الافتراضية هي جوهر أي آلية مقترحة، فعمليات الإجلاء والتعامل مع موجات اللاجئين، والتنسيق مع الدول المحورية مضامين مهمة لأي سياسات في هذا الشأن.
إن قدرة أي دولة على التعاون خلال الأزمات لا يعكس قدراتها الأمنية فحسب وإنما يعزز الثقة في كونها شريكا إقليميا موثوقا به بما يؤكد أن الشراكات الأمنية الخليجية في الوقت الراهن تحتوي على مضامين ذات اتجاهين على نحو مغاير للمفهوم التقليدي لتلك الشراكات.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك