العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

شعوب العالم النامي والبحث عن حياد مختلف

بقلم: جميل مطر

الجمعة ٠٥ مايو ٢٠٢٣ - 02:00

يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬يتعزز‭ ‬الاحتمال‭ ‬بأن‭ ‬تزداد‭ ‬فرص‭ ‬نشأة‭ ‬تجمع‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬أغلبها‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬النامي‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬تبحث‭ ‬لنفسها‭ ‬مجتمعة‭ ‬عن‭ ‬موقع‭ ‬في‭ ‬خريطة‭ ‬توزيع‭ ‬جديد‭ ‬للقوى‭ ‬الدولية‭. ‬أغلب‭ ‬الظن‭ ‬أن‭ ‬الظروف‭ ‬الدولية‭ ‬الراهنة‭ ‬والمتوقعة‭ ‬تدفع‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬نحو‭ ‬الأخذ‭ ‬بصيغة‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬صيغة‭ ‬الحياد‭ ‬الإيجابي‭ ‬وعدم‭ ‬الانحياز‭ ‬التي‭ ‬تبنتها‭ ‬قبل‭ ‬حوالي‭ ‬سبعين‭ ‬عاما‭ ‬مجموعة‭ ‬دول‭ ‬حديثة‭ ‬الاستقلال‭ ‬السياسي‭ ‬بهدف‭ ‬تحصين‭ ‬هذا‭ ‬الاستقلال‭ ‬والنأي‭ ‬بشعوبها‭ ‬عن‭ ‬صراع‭ ‬عقائدي‭ ‬وعن‭ ‬براثن‭ ‬استعمار‭ ‬جديد‭. ‬وقتئذ‭ ‬ساد‭ ‬الاقتناع‭ ‬بأن‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬شبكات‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬سوف‭ ‬يعرقل‭ ‬النمو‭ ‬ويشوه‭ ‬صورة‭ ‬الاستقلال‭ ‬ويعيد‭ ‬سطوة‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأجنبية‭.‬

وقفت‭ ‬عوامل‭ ‬بعينها‭ ‬وراء‭ ‬جهود‭ ‬ومساعٍ‭ ‬وأفكار‭ ‬تشكيل‭ ‬تجمع‭ ‬يضم‭ ‬دولا‭ ‬بعينها‭ ‬ويقترب‭ ‬بالشجن‭ ‬أو‭ ‬بالتمني‭ ‬من‭ ‬تجمع‭ ‬دول‭ ‬الحياد‭ ‬الإيجابي‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬الخمسينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬وقتها‭ ‬كانت‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬انطلاقتها‭ ‬وكثيرون‭ ‬يشبهون‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬بالحالة‭ ‬الراهنة‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬العظمى‭. ‬واقع‭ ‬الحال‭ ‬يتجاوز‭ ‬هذا‭ ‬الشبه‭ ‬إلى‭ ‬متغيرات‭ ‬دولية‭ ‬استجدت‭ ‬وبعضها‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬بالمقارنة‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬متغيرات‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭. ‬

أحاول‭ ‬هنا،‭ ‬وإن‭ ‬بصعوبة،‭ ‬حصر‭ ‬بعض‭ ‬تفاصيل‭ ‬هذه‭ ‬المتغيرات‭ ‬أو‭ ‬العوامل‭ ‬في‭ ‬فقرات‭ ‬موجزة‭ ‬تهدف‭ ‬أساسا‭ ‬إلى‭ ‬إلقاء‭ ‬الضوء‭ ‬عليها،‭ ‬ففي‭ ‬اعتقادي‭ ‬أن‭ ‬الإيجاز‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التطورات‭ ‬وإن‭ ‬تجاوز‭ ‬أو‭ ‬تهاون‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬الموضوع‭ ‬فلن‭ ‬يضعف‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬طرحها‭ ‬أملا‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬نقاش‭ ‬مفيد‭ ‬حولها‭. ‬طرحتها‭ ‬مجتمعة‭ ‬أو‭ ‬مجزأة‭ ‬على‭ ‬زملاء‭ ‬سابقين‭ ‬وأصدقاء‭ ‬حاضرين‭ ‬وبالفعل‭ ‬دار‭ ‬حولها‭ ‬نقاش‭ ‬أكثره‭ ‬مفيد‭. ‬أعرض‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المتغيرات‭ ‬والحوارات‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

أولا‭: ‬اقتراب‭ ‬متزايد‭ ‬ومتصاعد‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬منظومة‭ ‬قواعد‭ ‬وهياكل‭ ‬وضوابط‭ ‬النظام‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العالمي‭ ‬التي‭ ‬نظمتها‭ ‬وصاغتها‭ ‬اتفاقات‭ ‬بريتون‭ ‬وودز‭ ‬قرب‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭. ‬تحت‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬تندرج‭ ‬قضايا‭ ‬وتطورات‭ ‬بالغة‭ ‬الأهمية‭ ‬إحداها،‭ ‬ولعله‭ ‬أهمها‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬بدايات‭ ‬تراجع‭ ‬خجول‭ ‬ولكن‭ ‬جريء‭ ‬لسلطة‭ ‬الدولار‭ ‬الأمريكي‭ ‬وسيادته‭ ‬وهيمنته‭. ‬أقول‭ ‬بدايات‭ ‬وخجول‭ ‬لأننا‭ ‬لم‭ ‬نتعرف‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬الأمريكي‭ ‬على‭ ‬الخطوات‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أقدمت‭ ‬على‭ ‬اتخاذها‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬سعيها‭ ‬للدوران‭ ‬حول‭ ‬أزمة‭ ‬القروض‭ ‬وقضايا‭ ‬وصعوبات‭ ‬تمويل‭ ‬استيراد‭ ‬المحاصيل‭ ‬الغذائية‭ ‬والسلع‭ ‬الأساسية،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬قرارات‭ ‬السماح‭ ‬لدفع‭ ‬فواتير‭ ‬النفط‭ ‬بعملات‭ ‬محلية‭ ‬وعملات‭ ‬دولية‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬الدولار‭.‬

هذه‭ ‬الدول‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنها‭ ‬تعيش‭ ‬أيامها‭ ‬الراهنة‭ ‬تحت‭ ‬توقع‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬غير‭ ‬ودي‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬قد‭ ‬يشمل‭ ‬دولا‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭. ‬لا‭ ‬يخالجني‭ ‬شك‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬دعم‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭ ‬منتجة‭ ‬ومستوردة‭ ‬للطاقة‭ ‬أو‭ ‬للحبوب‭ ‬والأسمدة‭ ‬والأسلحة،‭ ‬وفي‭ ‬سعيها‭ ‬هذا‭ ‬تفضل‭ ‬الحث‭ ‬على‭ ‬تشكيل‭ ‬حركة‭ ‬أو‭ ‬مجموعة‭ ‬تضم‭ ‬الدول‭ ‬المتضررة‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬الدولار‭ ‬لتمثل‭ ‬جهة‭ ‬ضغط‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬تحمي‭ ‬حقوقها‭ ‬ضد‭ ‬ما‭ ‬تتوقعه‭ ‬من‭ ‬إجراءات‭ ‬حرب‭ ‬اقتصادية‭ ‬تشنها‭ ‬أمريكا‭ ‬ضدها‭.‬

يلحق‭ ‬بقضية‭ ‬هيمنة‭ ‬الدولار‭ ‬قضايا‭ ‬اقتصادية‭ ‬ذات‭ ‬صلة‭ ‬وثيقة‭ ‬بالتنمية‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬القضايا‭ ‬الصعوبات‭ ‬المتزايدة‭ ‬المرتبطة‭ ‬بتعاملات‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬مع‭ ‬المؤسسات‭ ‬المالية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬قراراتها‭ ‬سلطة‭ ‬ونفوذ‭ ‬أمريكا‭ ‬ودول‭ ‬ممولة‭ ‬أخرى‭.‬

غير‭ ‬خافية‭ ‬الجهود‭ ‬المبذولة‭ ‬حاليا‭ ‬لإنشاء‭ ‬مؤسسات‭ ‬بديلة‭ ‬أو‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬مبادرات‭ ‬تقدمها‭ ‬دول‭ ‬وتكتلات‭ ‬متخصصة‭ ‬أو‭ ‬إقليمية‭ ‬لدعم‭ ‬تنمية‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭ ‬النامي‭. ‬المشكلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تواجه‭ ‬حكومات‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المؤسسات‭ ‬البديلة‭ ‬يقع‭ ‬أغلبها‭ ‬تحت‭ ‬مظلة‭ ‬قوى‭ ‬كبرى‭ ‬تعتبرها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬منافسة‭ ‬لها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬سوف‭ ‬تتعرض‭ ‬الدول‭ ‬المتعاونة‭ ‬معها‭ ‬لإجراءات‭ ‬حروب‭ ‬اقتصادية‭ ‬شرسة‭ ‬تشنها‭ ‬أمريكا‭ ‬بضراوة‭.‬

في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭ ‬صارت‭ ‬الحروب‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والتشنجات‭ ‬الناتجة‭ ‬عنها‭ ‬سمة‭ ‬بارزة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬سمات‭ ‬المرحلة‭ ‬الراهنة‭ ‬من‭ ‬مراحل‭ ‬تطور‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭. ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬دول‭ ‬القمة‭ ‬بل‭ ‬تجاوزتها‭ ‬لتصير‭ ‬سيفا‭ ‬مسلطا‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تختار‭ ‬مواجهة‭ ‬النفوذ‭ ‬الأمريكي‭ ‬أو‭ ‬التوسع‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬مصالحها‭. ‬المثال‭ ‬الذي‭ ‬يتبادر‭ ‬فورا‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬يتعلق‭ ‬بما‭ ‬يتوقعه‭ ‬نظام‭ ‬حكم‭ ‬الرئيس‭ ‬لولا‭ ‬دا‭ ‬سيلفا‭ ‬في‭ ‬البرازيل‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬فاز‭ ‬الزعيم‭ ‬البرازيلي‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬الرئاسة‭ ‬ضد‭ ‬رغبة‭ ‬وإرادة‭ ‬واشنطن‭ ‬ورغبة‭ ‬وجهود‭ ‬وأموال‭ ‬المحافظين‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬اللاتينية‭ ‬وضد‭ ‬مصالح‭ ‬صناعة‭ ‬الأخشاب‭ ‬والتجارة‭ ‬فيها‭ ‬وضد‭ ‬أموال‭ ‬ونفوذ‭ ‬مصالح‭ ‬أوروبية‭. ‬أظن‭ ‬مع‭ ‬كثيرين‭ ‬غيري‭ ‬أن‭ ‬أمريكا‭ ‬لن‭ ‬تتأخر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تفرض‭ ‬على‭ ‬الرئيس‭ ‬البرازيلي‭ ‬خفض‭ ‬نشاطه‭ ‬ولجم‭ ‬علاقاته‭ ‬بروسيا‭ ‬والصين‭ ‬والتوقف‭ ‬عن‭ ‬دعوة‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬وأمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬للانضمام‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬البريكس‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬البرازيل‭ ‬كلا‭ ‬من‭ ‬الهند‭ ‬واتحاد‭ ‬جنوب‭ ‬أفريقيا،‭ ‬ولكنها‭ ‬تضم‭ ‬أيضا‭ ‬روسيا‭ ‬والصين،‭ ‬القوتين‭ ‬اللتين‭ ‬تدخلان‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والغرب‭ ‬عموما‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬منافسة،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬شكله‭ ‬ومضمونه‭ ‬الراهن‭ ‬أقرب‭ ‬شيء‭ ‬ممكن‭ ‬لنموذج‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭.‬

لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬علامات‭ ‬ومؤشرات‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العالمي‭. ‬المؤكد‭ ‬مثلا،‭ ‬في‭ ‬اعتقاد‭ ‬الكثيرين،‭ ‬أننا‭ ‬نعيش‭ ‬مرحلة‭ ‬حرجة‭ ‬وربما‭ ‬حاسمة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬تطور‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭. ‬المؤكد‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬حرب‭ ‬أوكرانيا‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬وقوع‭ ‬شرخ‭ ‬يتعمق‭ ‬بالتدريج‭ ‬في‭ ‬هيكل‭ ‬ومنظومة‭ ‬وحلف‭ ‬دول‭ ‬الغرب،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬عجلت‭ ‬بسباق‭ ‬تسلح‭ ‬رهيب‭ ‬طرفاه‭ ‬الصين‭ ‬وأمريكا‭ ‬كما‭ ‬استحضرت‭ ‬‮«‬عفريت‮»‬‭ ‬العسكرة‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬اليابان‭ ‬وألمانيا‭. ‬وليس‭ ‬خافيا‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬عاش‭ ‬أو‭ ‬درس‭ ‬تجربة‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬مغزى‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬الخطير‭.‬

ثانيا‭: ‬بمعنى‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬نهايات‭ ‬عصر‭ ‬ازدهرت‭ ‬فيه‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬التقليدية‭ ‬وأقصد‭ ‬بها‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬أفرزتها‭ ‬تطورات‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬وصعود‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬التجارة‭. ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬النامي‭ ‬والخارج‭ ‬لتوه‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬عباءة‭ ‬الاستعمار‭ ‬الغربي‭ ‬نصيب‭ ‬من‭ ‬سباق‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬وصراعاتها‭. ‬نذكر‭ ‬كيف‭ ‬تلونت‭ ‬حركات‭ ‬استقلال‭ ‬بألوان‭ ‬يسار‭ ‬وأخرى‭ ‬التزمت‭ ‬رأسمالية‭ ‬خلفها‭ ‬الاستعمار‭ ‬الغربي،‭ ‬وعندما‭ ‬اجتمع‭ ‬في‭ ‬باندونج‭ ‬قادة‭ ‬دول‭ ‬حديثة‭ ‬الاستقلال‭ ‬كان‭ ‬طبيعيا‭ ‬رغم‭ ‬اختلاف‭ ‬الألوان‭ ‬انشغالهم‭ ‬بفكرة‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تشارك‭ ‬دولهم‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬القرارات‭ ‬الدولية‭. ‬سيطرت‭ ‬وقتها‭ ‬طروحات‭ ‬تأمين‭ ‬الاستقلال‭ ‬الوليد‭ ‬وحماية‭ ‬دولهم‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬المخيف‭ ‬الناشئ‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ومعسكرها‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬ومعسكره‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬وارتفع‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬النامي‭ ‬شعار‭ ‬لا‭ ‬شرقية‭ ‬ولا‭ ‬غربية‭.‬

مرة‭ ‬أخرى‭ ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬عاما‭ ‬يرتفع‭ ‬الشعار‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سعي،‭ ‬معلن‭ ‬أو‭ ‬متكتم‭ ‬أو‭ ‬خجول‭ ‬ومتردد،‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬أرجاء‭ ‬العالم‭ ‬النامي‭ ‬لممارسة‭ ‬سياسات‭ ‬واتخاذ‭ ‬مواقف‭ ‬أقل‭ ‬تبعية‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬ابتعادا‭ ‬عن‭ ‬مواقع‭ ‬الصراع‭ ‬الناشب‭ ‬بين‭ ‬العمالقة‭. ‬ومعهما،‭ ‬وأقصد‭ ‬مع‭ ‬رفع‭ ‬الشعار‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬التمايز‭ ‬وتأكيد‭ ‬الاستقلال،‭ ‬تطل‭ ‬برأسها‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬أيديولوجية‭ ‬ظلت‭ ‬كامنة‭ ‬بفعل‭ ‬ضغوط‭ ‬عديدة‭. ‬هي‭ ‬القومية‭ ‬تبدأ‭ ‬فورات‭ ‬وطنية‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬النضال‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار‭ ‬وتنتهي‭ ‬عقيدة‭ ‬بهياكل‭ ‬وقواعد‭ ‬وآفاق‭ ‬تتجاوز‭ ‬أحيانا‭ ‬حدودها‭ ‬القطرية‭ ‬والوطنية‭ ‬إلى‭ ‬حدود‭ ‬إقليمية‭ ‬لتغطي‭ ‬قضايا‭ ‬متنوعة‭. ‬هذه‭ ‬القومية،‭ ‬كأيديولوجية،‭ ‬أشد‭ ‬تهديدا‭ ‬لمصالح‭ ‬الدول‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬التهديد‭ ‬الذي‭ ‬تمثله‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬الأخرى‭ ‬رأسمالية‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬اشتراكية‭. ‬يتأكد‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬بالحال‭ ‬الذي‭ ‬آلت‭ ‬إليه‭ ‬مختلف‭ ‬التجارب‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬أقاليم‭ ‬العالم‭ ‬التي‭ ‬تعرضت‭ ‬وتتعرض‭ ‬لضغوط‭ ‬الغرب‭ ‬بخاصة‭. ‬هذه‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬العائدة‭ ‬نجدها‭ ‬وراء‭ ‬سعي‭ ‬دول‭ ‬متزايدة‭ ‬العدد‭ ‬لتبني،‭ ‬أو‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬تبني‭ ‬سياسات‭ ‬عدم‭ ‬الانحياز‭.‬

ثالثا‭: ‬لا‭ ‬أتجاوز‭ ‬الاعتدال‭ ‬الواجب‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬عند‭ ‬مناقشة‭ ‬قضايا‭ ‬لم‭ ‬تحسم‭ ‬بعد‭ ‬جميع‭ ‬نهاياتها‭ ‬ولا‭ ‬أتجنى‭ ‬على‭ ‬حكومات‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬النامي‭ ‬عندما‭ ‬أشهد‭ ‬بأن‭ ‬تجربة‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬وعلاقات‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬تثبت‭ ‬أن‭ ‬الفشل‭ ‬وليس‭ ‬الإنجاز‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نصيب‭ ‬العدد‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭. ‬لا‭ ‬أستثني‭ ‬مجموعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬بل‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬مجبرا،‭ ‬بحكم‭ ‬المشاهدة‭ ‬ومعظم‭ ‬النهايات،‭ ‬أن‭ ‬أعتبرها‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬المثيرة‭ ‬للقلق‭ ‬ولا‭ ‬أقول‭ ‬اليأس‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬السودان‭ ‬تعرض‭ ‬الدعم‭ ‬لما‭ ‬أقول‭.‬

‭ ‬أتفهم‭ ‬ميل‭ ‬معظم‭ ‬حكومات‭ ‬دول‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬النامي‭ ‬ومن‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬وأوروبا‭ ‬لانتهاج‭ ‬سياسات‭ ‬حياد،‭ ‬نعلم‭ ‬عن‭ ‬ضعفها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬ضغوط‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى،‭ ‬ونعلم‭ ‬عن‭ ‬نقص‭ ‬تجاربها‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬مرحلة‭ ‬سريعة‭ ‬التغير‭ ‬والتقلب‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬منتقل،‭ ‬ونعلم‭ ‬عن‭ ‬دول‭ ‬بعض‭ ‬حكوماتها‭ ‬أو‭ ‬أكثرها‭ ‬غير‭ ‬مؤهل‭ ‬سياسيا‭ ‬أو‭ ‬اقتصاديا‭ ‬للعمل‭ ‬المنفرد‭ ‬أو‭ ‬ضمن‭ ‬تجمعات‭ ‬صغيرة،‭ ‬ونعلم‭ ‬بالتأكيد‭ ‬أن‭ ‬الأكثرية‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدول،‭ ‬ورغم‭ ‬فشلها،‭ ‬ترفض‭ ‬الاستمرار‭ ‬تابعة‭.‬

الانضمام‭ ‬إلى‭ ‬تكتل‭ ‬غير‭ ‬منحاز‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬الضمان‭ ‬الأمثل‭ ‬لدول‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬صعبة‭ ‬كالتي‭ ‬يمر‭ ‬بها‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭. ‬من‭ ‬حق‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬وليس‭ ‬مجموعة‭ ‬صغيرة‭ ‬جدا،‭ ‬كالحادث‭ ‬الآن،‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬التي‭ ‬تمس‭ ‬حقوق‭ ‬ومصالح‭ ‬شعوب‭ ‬الدنيا‭ ‬كافة‭. ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يتعين‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬حرمت‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬القطب‭ ‬الواحد‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬حقها‭ ‬في‭ ‬المشاركة‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬أنه‭ ‬ينتظرها‭ ‬عقوبات‭ ‬ومطاردات‭ ‬وإجراءات،‭ ‬بعضها‭ ‬عنيف،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬لها‭ ‬غرضها‭ ‬في‭ ‬التزام‭ ‬الحياد‭ ‬الإيجابي‭ ‬سياسة‭ ‬وموقفا‭ ‬بين‭ ‬قطبين‭ ‬أو‭ ‬معسكرين‭ ‬يستعدان‭ ‬لصراع‭ ‬مديد‭.‬

 

{ كاتب‭ ‬ومحلل‭ ‬سياسي‭ ‬مصري

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا