يوما بعد يوم يتعزز الاحتمال بأن تزداد فرص نشأة تجمع من دول أغلبها ينتمي إلى العالم النامي أو ما يسمى العالم الثالث تبحث لنفسها مجتمعة عن موقع في خريطة توزيع جديد للقوى الدولية. أغلب الظن أن الظروف الدولية الراهنة والمتوقعة تدفع هذه الدول نحو الأخذ بصيغة تقترب من صيغة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز التي تبنتها قبل حوالي سبعين عاما مجموعة دول حديثة الاستقلال السياسي بهدف تحصين هذا الاستقلال والنأي بشعوبها عن صراع عقائدي وعن براثن استعمار جديد. وقتئذ ساد الاقتناع بأن الوقوع في شبكات هذا الصراع سوف يعرقل النمو ويشوه صورة الاستقلال ويعيد سطوة الهيمنة الأجنبية.
وقفت عوامل بعينها وراء جهود ومساعٍ وأفكار تشكيل تجمع يضم دولا بعينها ويقترب بالشجن أو بالتمني من تجمع دول الحياد الإيجابي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. وقتها كانت الحرب الباردة في أوج انطلاقتها وكثيرون يشبهون هذه الحالة بالحالة الراهنة في العلاقات بين الدول العظمى. واقع الحال يتجاوز هذا الشبه إلى متغيرات دولية استجدت وبعضها ربما كان بالمقارنة لا يقل أهمية عن متغيرات ذلك العصر.
أحاول هنا، وإن بصعوبة، حصر بعض تفاصيل هذه المتغيرات أو العوامل في فقرات موجزة تهدف أساسا إلى إلقاء الضوء عليها، ففي اعتقادي أن الإيجاز في مثل هذه التطورات وإن تجاوز أو تهاون في عرض الموضوع فلن يضعف من أهمية طرحها أملا في إثارة نقاش مفيد حولها. طرحتها مجتمعة أو مجزأة على زملاء سابقين وأصدقاء حاضرين وبالفعل دار حولها نقاش أكثره مفيد. أعرض من هذه المتغيرات والحوارات ما يلي:
أولا: اقتراب متزايد ومتصاعد من نهاية منظومة قواعد وهياكل وضوابط النظام الاقتصادي العالمي التي نظمتها وصاغتها اتفاقات بريتون وودز قرب نهاية الحرب العالمية الثانية. تحت هذا العنوان تندرج قضايا وتطورات بالغة الأهمية إحداها، ولعله أهمها على الإطلاق، بدايات تراجع خجول ولكن جريء لسلطة الدولار الأمريكي وسيادته وهيمنته. أقول بدايات وخجول لأننا لم نتعرف بعد على رد الفعل الأمريكي على الخطوات الأولى التي أقدمت على اتخاذها بعض الدول في سعيها للدوران حول أزمة القروض وقضايا وصعوبات تمويل استيراد المحاصيل الغذائية والسلع الأساسية، أو على قرارات السماح لدفع فواتير النفط بعملات محلية وعملات دولية أخرى غير الدولار.
هذه الدول لا شك أنها تعيش أيامها الراهنة تحت توقع رد فعل غير ودي من جانب الولايات المتحدة، رد فعل قد يشمل دولا في الاتحاد الأوروبي. لا يخالجني شك كبير في أن هذه الدول تسعى إلى الحصول على دعم دول أخرى منتجة ومستوردة للطاقة أو للحبوب والأسمدة والأسلحة، وفي سعيها هذا تفضل الحث على تشكيل حركة أو مجموعة تضم الدول المتضررة من هيمنة الدولار لتمثل جهة ضغط في النظام الدولي تحمي حقوقها ضد ما تتوقعه من إجراءات حرب اقتصادية تشنها أمريكا ضدها.
يلحق بقضية هيمنة الدولار قضايا اقتصادية ذات صلة وثيقة بالتنمية. من هذه القضايا الصعوبات المتزايدة المرتبطة بتعاملات الدول النامية مع المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية التي تهيمن على قراراتها سلطة ونفوذ أمريكا ودول ممولة أخرى.
غير خافية الجهود المبذولة حاليا لإنشاء مؤسسات بديلة أو الاستفادة من مبادرات تقدمها دول وتكتلات متخصصة أو إقليمية لدعم تنمية شعوب العالم النامي. المشكلة التي لا تزال تواجه حكومات الدول النامية تكمن في أن المؤسسات البديلة يقع أغلبها تحت مظلة قوى كبرى تعتبرها الولايات المتحدة منافسة لها، وبالتالي سوف تتعرض الدول المتعاونة معها لإجراءات حروب اقتصادية شرسة تشنها أمريكا بضراوة.
في حد ذاتها صارت الحروب الاقتصادية والتشنجات الناتجة عنها سمة بارزة من أهم سمات المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظام الدولي. لم تعد تقتصر على العلاقات بين دول القمة بل تجاوزتها لتصير سيفا مسلطا على جميع الدول التي تختار مواجهة النفوذ الأمريكي أو التوسع فيه على حساب مصالحها. المثال الذي يتبادر فورا إلى الذهن يتعلق بما يتوقعه نظام حكم الرئيس لولا دا سيلفا في البرازيل.
لقد فاز الزعيم البرازيلي في انتخابات الرئاسة ضد رغبة وإرادة واشنطن ورغبة وجهود وأموال المحافظين في القارة اللاتينية وضد مصالح صناعة الأخشاب والتجارة فيها وضد أموال ونفوذ مصالح أوروبية. أظن مع كثيرين غيري أن أمريكا لن تتأخر في أن تفرض على الرئيس البرازيلي خفض نشاطه ولجم علاقاته بروسيا والصين والتوقف عن دعوة دول أخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية للانضمام إلى مجموعة البريكس التي تضم إلى جانب البرازيل كلا من الهند واتحاد جنوب أفريقيا، ولكنها تضم أيضا روسيا والصين، القوتين اللتين تدخلان مع الولايات المتحدة والغرب عموما في سباق منافسة، الذي هو في شكله ومضمونه الراهن أقرب شيء ممكن لنموذج الحرب الباردة.
لا تتوقف عند هذا الحد علامات ومؤشرات التحول في النظام الاقتصادي العالمي. المؤكد مثلا، في اعتقاد الكثيرين، أننا نعيش مرحلة حرجة وربما حاسمة في تاريخ تطور النظام الرأسمالي. المؤكد أيضا أن حرب أوكرانيا تسببت في وقوع شرخ يتعمق بالتدريج في هيكل ومنظومة وحلف دول الغرب، وفي الوقت نفسه عجلت بسباق تسلح رهيب طرفاه الصين وأمريكا كما استحضرت «عفريت» العسكرة إلى داخل كل من اليابان وألمانيا. وليس خافيا على من عاش أو درس تجربة الحرب العالمية الثانية مغزى هذا التطور الخطير.
ثانيا: بمعنى من المعاني نعيش في نهايات عصر ازدهرت فيه الأيديولوجيات التقليدية وأقصد بها تلك التي أفرزتها تطورات الثورة الصناعية وصعود الطبقة الوسطى في مدن التجارة. كان لنا في العالم النامي والخارج لتوه من تحت عباءة الاستعمار الغربي نصيب من سباق الأيديولوجيات وصراعاتها. نذكر كيف تلونت حركات استقلال بألوان يسار وأخرى التزمت رأسمالية خلفها الاستعمار الغربي، وعندما اجتمع في باندونج قادة دول حديثة الاستقلال كان طبيعيا رغم اختلاف الألوان انشغالهم بفكرة الحق في أن تشارك دولهم في صنع القرارات الدولية. سيطرت وقتها طروحات تأمين الاستقلال الوليد وحماية دولهم من الصراع المخيف الناشئ بين الولايات المتحدة ومعسكرها من ناحية والاتحاد السوفيتي ومعسكره من ناحية أخرى، وارتفع في معظم أنحاء العالم النامي شعار لا شرقية ولا غربية.
مرة أخرى وبعد أكثر من سبعين عاما يرتفع الشعار نفسه من خلال سعي، معلن أو متكتم أو خجول ومتردد، في عديد أرجاء العالم النامي لممارسة سياسات واتخاذ مواقف أقل تبعية أو أكثر ابتعادا عن مواقع الصراع الناشب بين العمالقة. ومعهما، وأقصد مع رفع الشعار والسعي إلى التمايز وتأكيد الاستقلال، تطل برأسها من جديد أيديولوجية ظلت كامنة بفعل ضغوط عديدة. هي القومية تبدأ فورات وطنية كما حدث في مرحلة النضال ضد الاستعمار وتنتهي عقيدة بهياكل وقواعد وآفاق تتجاوز أحيانا حدودها القطرية والوطنية إلى حدود إقليمية لتغطي قضايا متنوعة. هذه القومية، كأيديولوجية، أشد تهديدا لمصالح الدول العظمى من التهديد الذي تمثله الأيديولوجيات الأخرى رأسمالية كانت أم اشتراكية. يتأكد هذا الرأي بالحال الذي آلت إليه مختلف التجارب القومية في عديد أقاليم العالم التي تعرضت وتتعرض لضغوط الغرب بخاصة. هذه الأيديولوجية العائدة نجدها وراء سعي دول متزايدة العدد لتبني، أو العودة إلى تبني سياسات عدم الانحياز.
ثالثا: لا أتجاوز الاعتدال الواجب في الرأي عند مناقشة قضايا لم تحسم بعد جميع نهاياتها ولا أتجنى على حكومات دول العالم النامي عندما أشهد بأن تجربة العقود الأخيرة في أحوال وعلاقات الدول النامية تثبت أن الفشل وليس الإنجاز كان من نصيب العدد الأكبر من هذه الدول. لا أستثني مجموعة الدول العربية بل أجد نفسي مجبرا، بحكم المشاهدة ومعظم النهايات، أن أعتبرها من النماذج المثيرة للقلق ولا أقول اليأس وها هي السودان تعرض الدعم لما أقول.
أتفهم ميل معظم حكومات دول في العالم النامي ومن العالم المتقدم وخاصة في آسيا وأوروبا لانتهاج سياسات حياد، نعلم عن ضعفها في مواجهة ضغوط الدول الكبرى، ونعلم عن نقص تجاربها في التعامل مع مرحلة سريعة التغير والتقلب في عالم منتقل، ونعلم عن دول بعض حكوماتها أو أكثرها غير مؤهل سياسيا أو اقتصاديا للعمل المنفرد أو ضمن تجمعات صغيرة، ونعلم بالتأكيد أن الأكثرية العظمى من هذه الدول، ورغم فشلها، ترفض الاستمرار تابعة.
الانضمام إلى تكتل غير منحاز قد يكون الضمان الأمثل لدول عديدة في ظروف صعبة كالتي يمر بها عالم اليوم. من حق كل الدول وليس مجموعة صغيرة جدا، كالحادث الآن، اتخاذ القرارات التي تمس حقوق ومصالح شعوب الدنيا كافة. إلا أنه يتعين على الدول التي حرمت طويلا في مرحلة القطب الواحد من ممارسة حقها في المشاركة أن تدرك أنه ينتظرها عقوبات ومطاردات وإجراءات، بعضها عنيف، قبل أن يتحقق لها غرضها في التزام الحياد الإيجابي سياسة وموقفا بين قطبين أو معسكرين يستعدان لصراع مديد.
{ كاتب ومحلل سياسي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك