ما بين تجميد تياره السياسي وإعادته إلى الحياة يفصل نصف شهر فقط. قرر مقتدى الصدر العودة إلى العمل السياسي في نهاية الشهر الماضي بعد أن أعلن في منتصف الشهر نفسه اعتزاله السياسة.
كم مرة فعلها في السابق؟ كم مرة سيفعلها في المستقبل؟ ولكن السؤال يجب ألا يوجه إليه بل إلى أتباعه والمؤمنين بخطه السياسي. أما أولئك الذين توَّجوه إماما غائبا فلا أحد يعتب عليهم. ليس غريبا أن ينتج العراق مجانين من أنواع لم يتعرف عليها الطب من قبل بعد أن استولى القراصنة على سفينته.
العراق دولة يحكمها زعماء مليشيات لا تُخفي ولاءها لدولة أجنبية. يوهم مقتدى الآخرين بأنه مختلف عن سواه في ذلك المجال الضيق. وما يقوله يناقض ما يفعله. على سبيل المثال يزعم مقتدى أنه ضد النظام الطائفي. ذلك كلام غير صحيح. غير مرة قام مقتدى بإنقاذ ذلك النظام، إما من خلال إجهاض الحراك السياسي الشعبي أو التصدي بالسلاح للمحتجين. لا يختلف سلاح مقتدى عن أسلحة الآخرين، فهو موجه إلى الشعب وهو في خدمة النظام وسياساته بما في ذلك التبعية لإيران.
حقيقة إن مقتدى هو واحد من أكبر المستفيدين من نظام المحاصصة الطائفية تؤكدها وقائع عشرين سنة من الفساد الذي كان مقتدى نفسه واحدا من رواده. عبر سنوات طويلة استولى مقتدى وتياره على وزارات خدمية كانت بؤرا لفساد معلن يكشف عن زيف ادعاءاته بمناهضة الفساد. ولو لم يكن الأمر كذلك لشهد القطاع الصحي في العراق نهضة تغني العراقيين عن هدر أموالهم في تركيا والهند وإيران طلبا للعلاج. كانت وزارة الصحة بكل منشآتها بيده دائما.
السؤال الأبرز هو «من أين تتدفق الأموال على مقتدى وتياره ومَن يزود مليشياته بالسلاح؟».
اللعبة التي لعبها مقتدى من خلال الظهور بلباس ولغة المعارض هي لعبة سمجة ولا يصدقها مَن هو جاهل أو مستفيد منها. وعلى الطرفين تقف الملايين التي تقف وراء «الزعيم الشيعي الشاب» الذي لم ينفق دينارا عراقيا واحدا على التعليم. فهو بالرغم من جهله السياسي يدرك أن التعليم في أقل مستوياته سيكون الوسيلة التي تكشف عن عمليات التضليل التي يمارسها.
لقد قيل إنه انزعج من محاولات البعض تتويجه إماماً غائباً، أي المهدي المنتظر. وهو كلام فيه كثير من التضليل. ذلك لأنه ليس من المستبعد أن تكون أذرع وأجهزة مقتدى هي التي تقف راء إشاعة تلك النظرية التي خطط مسبقا لأن يتبرأ منها. كل الحكايات التي لُفقت حوله هي وسائل لسرقة الزمن وإلهاء الشعب العراقي عن الحقائق التي تمثل جوهر واقعه.
كل هذا الإفقار والتجهيل والعمى والفوضى وضياع الهدف وضعف القيم وشيوع الكراهية وتفشي الفساد وسواها من المشكلات التي هبطت على رأس الشعب العراقي إنما هي من صنع الطبقة السياسية التي ينتمي إليها مقتدى الصدر. فلو لم يكن جزءا من تلك الطبقة الفاسدة لما مولت الدولة مشروعه المتخلف، ولا أصدرت الولايات المتحدة عقوبات تحد من حركته، ولأمرت إيران أتباعها في السلطة بأن يقدموه إلى المحاكم وفي ذمته الكثير من ملفات الفساد وجرائم القتل.
هناك وثائق وأفلام كثيرة تدين مقتدى بسبب مساهمته في قتل العراقيين في سنتي الحرب الأهلية وما بعدهما. ولكن لا أحد يقوى على فتح تلك الملفات لأن مقتدى هو واحد من أهم مفاتيح العملية السياسية التي أقامها الأمريكان في العراق وتولت إيران رعايتها والإشراف عليها.
لذلك فإن دورة حياة الصدر السياسية التي يتجاذبها غيابه وحضوره إنما هي جزء من لعبة، يُراد منها إطالة عمر النظام الطائفي الذي لا يمكنه البقاء طويلا بسبب مخالفته لشروط وعناصر وأسباب الحياة في عصرنا.
وهو ما يعني أن مقتدى ينفخ الروح في جثة هامدة، ستبقي العراق دولة فاشلة وشعبا مغيبا وإرادة وطنية عاجزة. ما فعله مقتدى وما يفعله الآن إنما هو نوع من تزجية الوقت لينعم الفاسدون بأطول وقت ممكن من التمتع بخيرات العراق، ويلتهم الفساد أكثر ما يلتهم من النفوس والضمائر والقيم الأخلاقية، وليتحول العراق أكثر وقت ممكن إلى مستنقع للفساد المدعوم بجهل أسطوري.
وأخيرا أقول لو أن نموذج مقتدى وُجد في أي مكان آخر غير العراق لشعر الشعب بالعار مما هو فيه. وهو ما يحتم على الشعب العراقي أن ينهي واحدة من أسوأ فقرات التهريج الذي يعيشه.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك