أول شهادة وفاة تَصدر في تاريخ البشرية ويُكتب فيها بأن تلوث الهواء هو سبب الوفاة، حيث اتخذتْ محكمة في العاصمة البريطانية لندن في 16 ديسمبر 2020 قرارا تاريخيا لم ينعكس على بريطانيا فحسب، وإنما انتقل صداه ليعمَّ العالم أجمع، وينقش بصماته في كتب التاريخ البيئي عامة.
فربما ولأول مرة تُصدر الجهات المعنية بإخراج شهادات الوفيات في بريطانيا، شهادة وفاة لطفلة صغيرة في السن لا يتجاوز عمرها التسع سنوات، وتؤكد أن سبب وفاة هذه الطفلة هو «تلوث الهواء» والتعرض للملوثات الخطرة الموجودة في هوائنا من السيارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع. وهذه الشهادة مستندة على قرار هذه المحكمة الذي أثبت بعد سبع سنوات من المداولات الماراثونية، وبعد مخاضٍ طويل وعسير أن تلوث الهواء قد أسهم فعلا في قتل هذه الطفلة اللندنية، حيث جاء في قرار القاضي إن هذه الطفلة قد انتقلت إلى مثواها الأخير «بسبب إصابتها بالربو، وأن تعرضها للهواء الجوي الملوث أسهم في سرعة موتها»، كما صدر عن القاضي أيضا أن: «المصدر الرئيس لتعرضها للملوثات التي أدت إلى موتها هو الانبعاثات من عوادم السيارات».
ومؤخرا، وبالتحديد في 24 أبريل 2023 نشرتْ وكالة حماية البيئة الأوروبية تقريراً ضمن سلسلة من التقارير السنوية حول «جودة الهواء في أوروبا»، حيث جاء هذا التقرير الأخير تحت عنوان: «حالة جودة الهواء الأوروبية لعام 2023»، وغطى 37 دولة من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى دول أوروبية أخرى مثل تركيا، وصربيا، وكوسوفو، ومونتينيجرو.
وقد ركز التقرير الحالي على قضية صحية مهمة جدا لكل إنسان على وجه الأرض، سواء أكان غنياً أم فقيراً، مثقفاً أم جاهلاً، وهي أن تلوث الهواء الجوي في القارة الأوروبية يؤدي إلى قتل نحو 1200 طفل أوروبي سنوياً، فينقلهم إلى مثواهم الأخير وهم في ريعان شبابهم وفي سن مبكرة، كما يرفع تلوث الهواء الجوي الذي يتعرض له المواطن الأوروبي من مستوى مخاطر التعرض لأمراض القلب، والجهاز التنفسي، والالتهابات، والحساسية المزمنة، إضافة إلى الأمراض العقلية والنفسية.
فالطفل له وضعية خاصة مقارنة بالإنسان الشاب، فهو يتعرض ويتأثر بالملوثات وهو جنين في رحم أمه، فالمرحلة الأولى لاستنشاقه للهواء الملوث تبدأ في هذه المرحلة التكوينية من حياته، ولمدة طويلة تسعة أشهر، فيؤثر التلوث، ولو كانت نسبته منخفضة، على نمو وبناء أعضائه في تلك المرحلة المبكرة، كما يؤثر في الوقت نفسه على تاريخ الولادة، وفي بعض الحالات يخرج من الدنيا مبكراً قبل موعده، كما قد يسبب تلوث الهواء الشديد الإجهاض في حالات أخرى، أو يلد ووزنه منخفض جداً مقارنة بالطفل الطبيعي والسليم. وبعد أن يخرج من بطن أمه، فإن أعضاء جسده لا تزال في طور النمو والتكوين، وتعرضه للملوثات في هذه المرحلة تكون أشد وطأة وتنكيلاً بصحته مقارنة بتعرضه عندما يكون شاباً مكتمل نمو الأعضاء الداخلية والخارجية.
وعلاوة على اهتمام التقرير بصحة الطفل وتداعيات تلوث الهواء على أمنه وسلامته، فإن التقرير خرج بعدة استنتاجات خطيرة تؤكد تهديدات تلوث الهواء للصحة العامة بشكلٍ عام، كما يلي:
أولاً: مازال تلوث الهواء يُشكل المعضلة الصحية الرئيسة للقارة الأوروبية، ويعد من أهم التهديدات التي تواجه صحة المواطن الأوروبي.
ثانياً: قرابة 97% من سكان المدن الحضرية في أوروبا يتعرضون ويستنشقون هواءً ملوثاً مشبعاً بالدخان، أو المعروف بالجسيمات الدقيقة، وهذه المستويات التي يتعرضون لها لا تتوافق مع الخطوط الاسترشادية ومواصفات منظمة الصحة العالمية لعام 2021 بالنسبة إلى المستويات المسموح بها للجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر في الهواء الجوي، وهي 5 ميكروجرامات من الدخان في المتر المكعب من الهواء الجوي في السنة. وقد صنَّفت منظمة الصحة العالمية الجسيمات الدقيقة بأنها من الملوثات التي تسبب السرطان، فهي بسهولة ويسر تصل إلى الرئتين، ومنها تنتقل إلى مجرى الدم وإلى جميع الخلايا البشرية، كما أن هذه الجسيمات الدقيقة لها القدرة على الوصول إلى خلايا المشيمة في الأم الحامل، ومنها إلى الجنين.
ثالثاً: مستويات الدخان، وغاز الأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين في الهواء الجوي في القارة الأوروبية أعلى من المستويات التي وضعتها منظمة الصحة العالمية.
وهذه الحالة الأوروبية المتعلقة بتدهور نوعية الهواء ليست فريدة من نوعها، وليست مستقلة عما يحدث في الدول الأخرى فهي تنطبق على معظم دول العالم، حيث أكدت منظمة الصحة العالمية في عام 2021 أن 97% من سكان العالم يعيشون في بيئة هواؤها ملوث ويتجاوز معايير المنظمة، كما قدَّرت المنظمة أن هناك أكثر من سبعة ملايين من بني آدم يوارى جثمانهم الثرى سنوياً نتيجة للعيش في بيئة مُلوثَة الهواء الجوي.
وانطلاقاً من هذه الحالة المأساوية لجودة الهواء حول العالم أجمع، صرح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في 27 أكتوبر 2018 بأن تلوث الهواء أصبح الآن «حالة صحية طارئة وصامتة»، حيث قال: «لقد تجاوز العالم منعطف التبغ، ونواجه الشيء نفسه في الهواء السام الذي نستنشقه، والذي يُعد التبغ الجديد، فلا أحد يَسْلم من تلوث الهواء، لا غني ولا فقير، إنها حالة صحية طارئة وصامتة»، وعلاوة على تحذيرات رئيس المنظمة نفسه، فإن المنظمة ممثلة في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان قامت في عام 2015 بتصنيف «الهواء الجوي» بأنه من أسباب الإصابة بالسرطان للإنسان.
فبعد كل هذه الأدلة الدامغة والمتواترة على تورط تلوث الهواء في قتل البشر في كل أنحاء المعمورة، لا بد على الجميع أفراداً، وشعوباً، وحكومات، ومجالس نيابية أن يُعطوا جل اهتمامهم وعنايتهم بهذه القضية الشائكة التي تهلك يومياً أطفالنا، وشبابنا، وشيوخنا على حدٍ سواء، وبالتحديد معالجة الملوثات التي تنجم عن السيارات أولاً، ثم محطات توليد الكهرباء والمصانع ثانيا.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك