د. أحمد علي سليمان
إن الناظر المدقق في حال الدول المتقدمة يلحظ أن ثقافة المسؤولية هي المحرك العملاق الذي يدفع الناس دفعًا نحو الارتقاء والتقدم؛ لذلك تسعى هذه الدول إلى تمكينها في جنبات المجتمع. وتتعاظم هذه المسؤولية في خضم سباق الدول المحموم للصعود إلى القمم الاقتصادية والصناعية والتقنية...إلخ أو البقاء عليها، وأيضا في سياق مواجهة كثير من دول العالم للتحديات والمشكلات والأزمات التي تواجهها..
وفي إطار سعي الأمة العربية والإسلامية الحثيث للانطلاق إلى آفاق التقدم والازدهار؛ فنعتقد أنه لن يكون أمامها من بديل عن تمكين القيم الدافعة للتقدم في الفكر الإسلامي والإنساني؛ لتكون بمثابة القاعدة الصلبة لبنية مجتمعية تسودها المحركات الذاتية الداخلية، والمرتكزات والمنطلقات والمنصات للإقلاع الحضاري، وعلى رأسها ثقافة المسؤولية وزرعها ونثرها ونشرها وتجذيرها وترسيخها في قلب المجتمع والناس.
والمنهج الإسلامي بعالميته وصلاحيته لكل زمان ومكان، قادر على قيادة البشرية إلى رشدها، ومن ثم فيه المسعف لمبتغانا؛ بل هو زاخر بمقومات المسؤولية الشاملة والمتكاملة والقابلة للتحقيق والتطبيق، وما علينا إلا تمثلها حياتيًّا؛ حتى تعيش فينا ونعيش فيها، ومن ثم تصير منهج حياة لنا وللأجيال القادمة.
والمسؤولية في الإسلام فردية وجماعية واجتماعية وإنسانية.
والمسؤولية الفردية تعني كل ما يجب على الإنسان أداؤه تجاه ربه تعالى، وتجاه نفسه؛ بأن يكون مسؤولا عن جوارحه، وعن بدنه، وعقله، وعلمه، وعمله، وأسرته، وعباداته، ومعاملاته، ومسؤولياته، وما يجب عليه أداؤه تجاه بني جنسه، وأيضا تجاه شتى مفردات الطبيعة والكون (الحيوان، والنبات، والجماد، والماء، والفضاء...إلخ).
يقول الحق تبارك وتعالى: (إنَّا عَرَضْنَا الْأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أن يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنسَانُ إنه كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب: 72)، فهذه الآية الكريمة تدل على المسؤولية بمعناها الشامل، فالأمانة هنا تعني المسؤولية تمامًا. وقال تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أمَانَاتِكُمْ وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27)، وقد سمَّى اللهُ تعالى التقصيرَ في تحمل مسؤولية الأمانة بالخيانة.
وقال تعالى: (وَأوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئولًا) (الإسراء: 34)، فهذه الآية تدل على مسؤولية الإنسان عما يقطعه على نفسه من العهود والمواثيق مع الآخرين، تحقيقًا لصالح الناس. وقال أيضا: (إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36)، ففي هذه الآية التصريح بمسؤولية الإنسان عن جوارحه، فهو محاسب على كل ما يقوم به(مروان محمد أبو بكر: كلمات في مفهوم المسؤولية) .وقال: (وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: 93)، وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: 38)، ويقول أيضا: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرَى) (فاطر: 18)، ويقول تعالى: (فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) (الأنعام: 104)، (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (لقمان: 12)، وقال تعالى (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (فصلت: 46)، ويقول تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ - وَاتَّقُوا اللَّهَ - إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر: 18).
ويحدد النبي (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) معالمَ المسؤولية وشمولَها، بقوله: (كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، فالإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِه، والرَّجلُ راعٍ في أهلِه ومسؤولٌ عن أهلِه، والمرأةُ راعيةٌ في بيتِ زوجِها ومسؤولةٌ عن رعيَّتِها، والخادمُ راعٍ في مالِ سيِّدِه ومسؤولٌ عن رعيَّتِه وكلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِه) (أخرجه ابن حبان).
وهناك حكمة جليلة قالها الأجداد: (من تمام المروءة أن يعرف المرء ما عليه فيؤديه، وما له فيستوفيه). وهكذا فإن بنية المسؤولية الشاملة تبدأ من الفرد وتنتهي إليه.
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – مصر
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك