المشروع الوطني الفلسطيني هو المشروع الكفاحي الهادف إلى تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير بحرية على كامل ترابه الوطني، الأمر الذي تحققه بشكل ناجز دولة ديمقراطية موحدة تسود المساواة بين مواطنيها، أكان في الحقوق أم الواجبات، بعيداً عن أي شكل من أشكال التمييز العنصري أو القومي أو الديني أو الاجتماعي أو الجندري.
فالمشروع الوطني الفلسطيني هو مشروع لكل الفلسطينيين من أجل إدراك حقوقه الوطنية، وما يمثل الكل الفلسطيني هو منظمة التحرير الفلسطينية، التي تحمل على أكتافها المشروع الوطني الفلسطيني وتعمل على تعبئة طاقات شعبنا وقيادة نضالاته، وتعزيز وحدته في كل مناطق وجوده، ومن هذه الزاوية فالمنظمة والبرنامج صنوان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، فعلى أساس البرنامج المرحلي نالت المنظمة الاعتراف العربي والدولي بوحدانية التمثيل لشعبها، وبالتالي الاعتراف بحق تقرير المصير لهذا الشعب، هذا بالضبط ما يستجيب له ويعبر عنه البرنامج المرحلي بما هو منظومة متكاملة، نقطة ارتكازها هي الانتفاضة الشعبية بروافعها الكفاحية المتعددة، وبشبكة مؤسساتها وتحالفاتها، منظومة توجه نضال الشعب الفلسطيني وتؤطره في كل مناطق وجوده، من أجل الدولة والعودة والمساواة القومية، على طريق التقدم نحو إنجاز الحل التاريخي بانعقاد شروطه، الذي سيمكن شعبنا من ممارسة حقه في تقرير المصير على كامل أرض فلسطين، فالحل الكامل للمسألة الوطنية الفلسطينية، لا يكون إلا عندما يمارس الشعب الفلسطيني بأسره حقه في تقرير المصير على كامل ترابه الوطني بتوفير ما يتطلبه مرحلياً إنجاز حق تقرير المصير على محاوره الثلاثة «الدولة والعودة والمساواة القومية»، وفي هذا الإطار هناك آراء خاطئة يجري تداولها في بعض الأوساط مفادها أن البرنامج المرحلي يقتصر في تناوله للقضية الوطنية على ما ترتب عن حرب الـ67 من نتائج، أي احتلال الضفة بما فيها القدس والقطاع، ولا يذهب إلى الأصل المتمثل بنكبة الـ48 بتداعياتها المتمثلة بإقامة دولة إسرائيل كياناً غاصباً على أنقاض فلسطين التاريخية، أرضاً وشعباً وكياناً، علماً أن البرنامج المرحلي يتطرق إلى جميع جوانب المسألة الوطنية على كامل الوطن في الوضع الراهن، بما يشمل الكل الفلسطيني من خلال ثلاثية الدولة «العودة» المساواة، مؤسساً للحل الديمقراطي الجذري للمسألة الوطنية برباط وثيق بين مرحلتين، ترسي الأولى أسس التقدم بثبات نحو الحل التاريخي.
إن كون البرنامج مرحلياً لا يقلل من قيمة ما يحققه، فضلاً عما يؤسس له، وهو استراتيجي بكل المقاييس، لأنه يقيم البنية التحتية المفضية إلى إنجاز الحقوق الوطنية.
لقد حافظ البرنامج المرحلي على راهنيته في التعبير عن المشروع الوطني الفلسطيني سياسياً، وفي توجيه حركة النضال ميدانياً، ومع ذلك ثمة حاجة إلى العمل من أجل رد الاعتبار إلى البرنامج المرحلي، بعد كل ما لحق به من جحود وإساءات، من خلال محاولة تقديم ما رست عليه عملية أوسلو من نتائج، واعتبار سلطة الحكم الإداري الذاتي محطة الدولة في صيرورتها، أو من خلال ما يسمى «حل الدولتين»، وهو ليس مصطلحاً فلسطينياً، بل مصطلح جاء في خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في 24/6/2002، ورحبت به الرباعية الدولية التي اعتمدته في خارطة الطريق 20/12/2002. وبقي هذا المصطلح قيد التداول لغموضه أو التباسه، وبالأساس لسهولة تحميله مضامين هابطة لحقوقنا الوطنية، أو في أحسن الحالات للتملص من تحديد موقف واضح إزاء هذه الحقوق، والآن إدارة الرئيس الحالي جو بايدن تدعو إلى حل الدولتين من دون الإفصاح عن مضمونه، مع تأكيدها عدم توفر شروط التقدم نحو إنجاز هذا الحل، ما يعني أن المطروح هو إدامة تساكن الحكم الإداري الذاتي مع الاحتلال الإسرائيلي واستيطانه.
ما زال النقاش يدور في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة حول تعريف «المشروع الوطني»، بعد أن ساد الاعتقاد أن هذا الموضوع قد حسم منذ مطلع السبعينيات لصالح اعتماد البرنامج المرحلي، بعد أن أكدت التجارب النضالية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أنه أكثر تعقيداً من أن يجد حله دفعة واحدة لأسباب محلية وخارجية فائقة الأهمية، وانطلاقاً من هذا الإدراك كان لا بد للفكر السياسي الفلسطيني أن يبحث عن استراتيجية، تفتح أمام الحركة الفلسطينية آفاق التقدم نحو إنجاز الحقوق الوطنية، فوجدها في المقاربة المرحلية التي توقف أمامها، وأجابت عنها برنامجيا دورات متعاقبة للمجلس الوطني الفلسطيني، بدءاً من دورة انعقاده الثانية عشرة في القاهرة 1/6/1974 – 8/6/1974، ما جعلها عملياً برنامجا للإجماع الوطني.
لقد أطلقت اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عام 1973 الوثيقة التأسيسية للبرنامج المرحلي، وأعاد المؤتمر الوطني العام السابع للجبهة الديمقراطية في عام 2018 تقديم البرنامج المرحلي في البرنامج السياسي للجبهة، مكسباً إياه المزيد من التحديد والوضوح والملموسية، من دون أن يحدث تغييراً على أساسياته، إذ دعا إلى ما يلي:
«في الظروف الراهنة، وفي ظل التبديد والتشريد والاحتلال الاستيطاني والتمييز العنصري الذي فرضه العدوان الصهيوني على شعبنا، فإن الظفر بحق تقرير المصير يتطلب مرحليا ما يلي:
أ- تحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان يونيو 1967 وتأمين الجلاء التام عنها، وتمكين دولة فلسطين من نيل استقلالها وممارسة سيادتها الكاملة على أرضها المحررة، بما فيها القدس.
ب- إقرار حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، التي شردوا منها منذ عام 1948، واستعادة ممتلكاتهم عملاً بقرارات الشرعية الدولية، وبخاصة قرار الجمعية العامة رقم 194.
جـ- ضمان حق المساواة القومية لجماهير الشعب الفلسطيني داخل حدود 1948، والاعتراف بهويتها القومية كجزء من الشعب الفلسطيني الموحد، وتمتعها بكامل الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على قدم المساواة مع سائر المواطنين.
إن وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة حقه في تقرير المصير، على تباين الظروف التي تعيشها مختلف تجمعاته، تجعل من التقدم والنجاحات التي يحرزها نضاله، على أي من هذه المحاور الثلاثة، تعزيزاً ودعماً لنضاله الوطني التحرري على المحورين الآخرين».
النقاش هذا في المشروع الوطني، سببه الأهم، يعود إلى اتفاقيات أوسلو التي جرى الترويج لها على أوسع نطاق، باعتبارها الطريق الذي يقود إلى تحقيق البرنامج المرحلي، أو للتقدم نحو تحقيقه بالحد الأدنى، ليتضح أن عملية التسوية ذات المرحلتين التي قامت عليها أوسلو لم تتجاوز مرحلتها الأولى، المسماة انتقالية، بما هي حكم إداري ذاتي محدود الصلاحيات، أما المرحلة التي تلي، أي الوضع الدائم، فليس في نص الاتفاقية ما يلزم، فتحوّل الوضع الانتقالي إلى دائم لا شيء يمكن أن يعترض سبيله أو يلغي مفاعيله، سوى نهوض مقاومة فاعلة في وجهه تسمح بعكس المسار.
وفي ظل المتغيرات الدولية والإقليمية والفلسطينية فمازالت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تعتقد أن البرنامج المرحلي هو الأكثر تلبية للمصلحة الوطنية الجامعة، والأكثر جدوى في اجتذاب التأييد الخارجي لحقوقنا الوطنية، خاصة بعد أن شق هذا البرنامج طريقه منذ عقود في محافل الدول والمؤسسات الدولية، واستقر في مبنى قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالحقوق الوطنية الثابتة وغير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني.
وللأوضاع الصعبة التي تواجه العمل الوطني دورها في دوام إثارة هذا النقاش، في ظل ما أدى إليه أوسلو من تمدد الاستيطان ومضاعفة التهويد، حُمّل البرنامج المرحلي عبء المسؤولية عنها، ما شرّع الأبواب أمام البحث عن تعريف آخر للمشروع الوطني، باستعادة مقولات « التحرير الكامل»، أو وفق رؤية «الدولة الواحدة بحقوق متساوية لمواطنيها»، غير أن المشكلة في الطرحين، أن الأول يعتمد حتى يستوفي نصابه على شرط خارجي حليف مرحب بانعقاده بكل تأكيد، إنما قرار توقيته وسياقه سيكون بيد أصحابه، والثاني يخدم في الظرف الحالي مشروع إسرائيل الكبرى، الذي يقرن الضم بالأبارتيد، حيث لا يفترض بالكيان الصهيوني بناءً على نسبة القوى، القبول بمبدأ الحقوق المتساوية الذي يعني تقويض مرتكزات النظام السياسي الصهيوني القائم.
من الطبيعي أن يدافع كل عن رأيه ويتحيز لمشروعه، إنما بالآخذ بمسلمتين تشكلان معاً الشرط اللازم لمواجهة مؤثرة مع إسرائيل وتشكلان مسلمات وطنية لأي برنامج سياسي: الأولى، هي صون وحدة الشعب، والثانية، هي توفير شروط تنظيم الشعب وتعبئة طاقاته، ووحدة الشعب هي شرط لتنظيم وتعبئة طاقاته.
والالتزام الصادق بمسلمتي وحدة الشعب وتعبئة طاقاته في معركة التحرر الوطني، ينزع عن الخلافات الناجمة عن تجاذب مختلف البرامج المطروحة طابعها الاصطفافي المتوتر، ويوفر أجواء صحية للحوار حولها، بأسلوب مثمر، بدلا من أن يسود الانقسام ساحة العمل الوطني.
إن البرنامج المرحلي لا يستبعد التسوية السياسية من خلال المفاوضات إذا توفرت الشروط التي تكفل مخرجات تحقق أهداف النضال الوطني، لقد اعتبرت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أن طريق أوسلو هو خروج عن البرنامج المرحلي وليس تطبيقاً له، كما يدعي فريق أوسلو، الذي ينتهج سياسات متراجعة عن برنامج الإجماع الوطني وفق القرارات الصادرة عن الدورات المتعاقبة للمجلس الوطني الفلسطيني، وبالأخص قرارات الدورة 23 للمجلس الوطني الفلسطيني في 30 أبريل – 4 مايو 2018 التي اعتمدت آلية خاصة للخروج من أوسلو، ووقف التنسيق الأمني بكل أشكاله والتحرر من التبعية الاقتصادية التي كرسها بروتوكول باريس، وبتبني حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها ودعوة دول العالم إلى فرض العقوبات على إسرائيل لردع انتهاكاتها الصارخة للقانون الدولي، ولجم عدوانها المتواصل على الشعب الفلسطيني.
عملية السلام هذه وأخطاء السياسة الفلسطينية، قادت إلى واقع فلسطيني صعب، جعل من قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 67 أمراً مستحيلاً عبر المفاوضات العبثية، ما يتطلب إعادة النظر في كل ما يتعلق باستراتيجية العمل الوطني، إن النتيجة التصفوية التي يقود إليها هذا المسار واضحة بأبعادها الكارثية، والمشاركة في المفاوضات وفقاً للرؤية «الإسرائيلية – الأمريكية» تنطوي على آليتها الخاصة لدفع السائرين في هذا المسار إلى هذه النتيجة بصرف النظر عن أمانيهم ورغباتهم.
أما البرنامج المرحلي فكان ومازال قبل كل شيء، برنامج الإعداد والتأطير للانتفاضة الشعبية الشاملة باعتبارها الشكل الفلسطيني المميز من أشكال حرب الشعب وصولاً إلى العصيان الوطني الشامل، ومن هذا المنظور فإن البرنامج المرحلي هو برنامج تعبئة وتنظيم القوى الذاتية الفلسطينية بالاعتماد على الذات من موقع الثقة بطاقات الشعب وقدرات الحركة الجماهيرية، وتثبت وقائع الحياة أن المساحة التي تحركت عليها جميع الانتفاضات التي شهدتها الحركة الفلسطينية قبل حرب 1982 وما بعدها دارت رحاها ضمن محددات البرنامج المرحلي.
لقد تجلت مشاركة كل تجمعات الشعب الفلسطيني في صناعة وقائع معركة القدس بصيغ العمل المتاحة، وبأشكال النضال المتوافقة مع ظرف كل تجمع على حدة، المقاومة الشعبية بما فيها القدس.
إن وحدة عبر الساحات وتلاحمها، وتعدد أشكال النضال وتكاملها، كما ظهرت للعيان في معركة القدس تجسيداً لموضوعات البرنامج الوطني المرحلي هي بمثابة اختبار عام لما سوف تأتي به محصلة تراكمات وقائع النضال اليومي مؤذنة بالعد التنازلي لدحر الاحتلال بجيشه ومستوطنيه، تحقيقاً لأهداف البرنامج الوطني، برنامج الدولة والعودة وحق تقرير المصير.
{ باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك