العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٦ - السبت ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

صفـحـات مــن أوراق جــدي الـصــفــراء.. الإتقان واستدامة الأعـمـال وخواتيمها

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ١٤ مايو ٢٠٢٣ - 02:00

كتب‭ ‬جدي‭ ‬في‭ ‬أوراقه‭ ‬الصفراء‭..‬

إنه‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬التحولات‭ ‬النفطية‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وفي‭ ‬فترة‭ ‬تحول‭ ‬البيوت‭ ‬من‭ ‬المنازل‭ ‬الخشبية‭ ‬والسعف‭ ‬إلى‭ ‬البيوت‭ ‬المصنوعة‭ ‬من‭ ‬الطين‭ ‬والحصى،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬بنّاء‭ ‬اسمه‭ (‬عبدالله‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬البنّاء‭ ‬متقنا‭ ‬عمله‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬قوية،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬كبار‭ ‬تجار‭ ‬المنطقة‭ ‬يطلبونه‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر‭ ‬لبناء‭ ‬منازلهم‭ ‬الجديدة‭ ‬أو‭ ‬إضافة‭ ‬غرف‭ ‬إلى‭ ‬منازلهم‭ ‬الكبيرة‭ ‬القديمة،‭ ‬فكان‭ ‬عمله‭ ‬يقارب‭ ‬الكمال‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭.‬

وأما‭ ‬هو‭ ‬وأسرته‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬يسكنون‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬من‭ ‬السعف‭ ‬في‭ ‬أطراف‭ ‬الحي‭ ‬القديم‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه‭. ‬

وعندما‭ ‬كبر‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬وبدأ‭ ‬جسمه‭ ‬يُوهن،‭ ‬شعر‭ ‬بأنه‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬ليتقاعد‭ ‬ويهدأ‭ ‬ويستريح‭ ‬مع‭ ‬أولاده‭ ‬وأسرته،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬أولاده‭ ‬كبروا‭ ‬وبدأوا‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬الدوائر‭ ‬الحكومية‭ ‬التي‭ ‬أنشأتها‭ ‬الحكومة‭ ‬مؤخرًا،‭ ‬فكان‭ ‬يسأل‭ ‬نفسه‭: ‬ما‭ ‬الداعي‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬أكثر؟

سمع‭ ‬كبير‭ ‬التجار‭ ‬ما‭ ‬عزم‭ ‬عليه‭ (‬عبدالله‭)‬،‭ ‬فاستدعاه،‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬ألا‭ ‬يتقاعد‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬إنه‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬القادمة‭ ‬سيتوسع‭ ‬عملك،‭ ‬وربما‭ ‬تصبح‭ ‬مقاولا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬وخاصة‭ ‬إن‭ ‬المنطقة‭ ‬مقبلة‭ ‬على‭ ‬التغيير‭ ‬والتطور،‭ ‬وحتى‭ ‬إن‭ ‬شئت‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعمل‭ ‬أنا‭ ‬وأنت‭ ‬شركة‭ ‬مقاولات‭ ‬تقوم‭ ‬أنت‭ ‬بإدارتها‭ ‬والعمل‭ ‬فيها،‭ ‬وأنا‭ ‬أعطيك‭ ‬رأس‭ ‬المال‭.‬

شكر‭ ‬عبدالله‭ ‬مبادرة‭ ‬كبير‭ ‬التجار،‭ ‬ولكنه‭ ‬اعتذر‭ ‬لأنه‭ ‬عزم‭ ‬أمره‭ ‬وقطع‭ ‬عهدًا‭ ‬لأسرته‭ ‬وأولاده‭ ‬أنه‭ ‬سيترك‭ ‬العمل‭ ‬ويستريح‭.‬

وبعد‭ ‬عدة‭ ‬محاولات‭ ‬من‭ ‬كبير‭ ‬التجار،‭ ‬وجد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬إقناع‭ ‬عبدالله‭ ‬والعدول‭ ‬عن‭ ‬رأيه،‭ ‬فقال‭ ‬له‭: ‬لي‭ ‬رجاء‭ ‬واحد‭ ‬وأخير‭ ‬وبعدها‭ ‬يمكنك‭ ‬الرحيل‭.‬

فقال‭ ‬عبدالله‭: ‬ما‭ ‬هو؟

كبير‭ ‬التجار‭: ‬أريدك‭ ‬أن‭ ‬تبني‭ ‬لي‭ ‬منزلاً‭ ‬وسيكون‭ ‬هذا‭ ‬آخر‭ ‬عمل‭ ‬لك،‭ ‬وبعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬منه،‭ ‬يمكنك‭ ‬الرحيل‭.‬

وافق‭ ‬عبدالله‭ ‬على‭ ‬مضض،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬شرع‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬ولعلمه‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬سيكون‭ ‬الأخير‭ ‬فلم‭ ‬يحسن‭ ‬صنعه،‭ ‬فاستخدم‭ ‬المواد‭ ‬الرديئة،‭ ‬ولم‭ ‬يعمل‭ ‬بكل‭ ‬إبداعاته‭ ‬وقدراته‭ ‬ومهاراته‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬البيوت،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬ينهي‭ ‬البيت‭ ‬بأسرع‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬وبأي‭ ‬طريقة‭ ‬كانت،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬العمال‭ ‬‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬كانوا‭ ‬يحاولون‭ ‬أن‭ ‬ينبهوا‭ ‬عبدالله‭ ‬للأخطاء‭ ‬التي‭ ‬يرتكبها‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يهتم‭.‬

وأنهى‭ ‬بناء‭ ‬البيت‭ ‬بأسرع‭ ‬ما‭ ‬يمكن،‭ ‬حتى‭ ‬يتفرغ‭ ‬للتقاعد،‭ ‬وبعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬كبير‭ ‬التجار،‭ ‬فسلمه‭ ‬المفتاح،‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬بكل‭ ‬أدب‭ ‬واحترام‭ ‬أن‭ ‬يرحل‭ ‬الآن‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬كبير‭ ‬التجار‭ ‬طلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يصحبه‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬الجديد،‭ ‬وأن‭ ‬يشرح‭ ‬له‭ ‬المرافق‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المنزل‭.‬

فذهبا‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭ ‬الجديد،‭ ‬وفتح‭ ‬عبدالله‭ ‬الباب‭ ‬وقام‭ ‬بشرح‭ ‬المنزل‭ ‬وتفصيلاته،‭ ‬وكان‭ ‬كبير‭ ‬التجار‭ ‬يقف‭ ‬مذهولاً‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القدرات‭ ‬والإمكانيات‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬البيت،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬خفايا‭ ‬ونواقص‭ ‬المنزل،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬عبدالله‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يخفي‭ ‬العيوب‭ ‬والنواقص‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬والتي‭ ‬تجاهلها‭ ‬هو،‭ ‬وعندما‭ ‬انتهى‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يغادر،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كبير‭ ‬التجار‭ ‬استوقفه‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬‮«‬خذ‭ ‬المفتاح،‭ ‬فهذا‭ ‬المنزل‭ ‬هديتي‭ ‬لك‭ ‬نظير‭ ‬كل‭ ‬سنوات‭ ‬الخدمة‭ ‬التي‭ ‬قدمتها‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬تتقبلها‭ ‬مني‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬غادر‭.‬

وقف‭ ‬البنّاء‭ ‬العجوز‭ ‬المبدع‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬المنزل،‭ ‬صعقًا‭ ‬مبهورًا‭ ‬لا‭ ‬يصدق‭ ‬ما‭ ‬سمع،‭ ‬ولكن‭ ‬خلخلة‭ ‬المفاتيح‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬جعلته‭ ‬يعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حياته،‭ ‬أصبحت‭ ‬حياته‭ ‬المهنية‭ ‬كشريط‭ ‬سينمائي‭ ‬يتحرك‭ ‬أمام‭ ‬ناظريه،‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬فسأل‭ ‬نفسه‭: ‬ماذا‭ ‬فعلت‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬حياتي؟‭ ‬لماذا‭ ‬أهملت؟‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬هكذا؟‭ ‬فلماذا‭ ‬عندما‭ ‬بلغت‭ ‬النهاية‭ ‬لم‭ ‬أتقن‭ ‬عملي؟‭ ‬ما‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬البدايات‭ ‬والنهايات؟

وتنتهي‭ ‬قصة‭ ‬جدي‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القصة‭ ‬يذكر‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬يحب‭ ‬إذا‭ ‬عمل‭ ‬أحدكم‭ ‬عملاً‭ ‬أن‭ ‬يتقنه‮»‬،‭ ‬صحيح‭ ‬الجامع‭.‬

ثم‭ ‬يسأل‭ ‬جدي‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭: ‬ترى‭ ‬لماذا‭ ‬تناسى‭ ‬أو‭ ‬تجاهل‭ ‬البنّاء‭ ‬العجوز‭ ‬هذا‭ ‬المبدأ‭ ‬المهم؟

وتنتهي‭ ‬أوراق‭ ‬جدي‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬عندها‭ ‬ذهبت‭ ‬أتساءل‭ ‬وأبحث‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الإتقان،‭ ‬فوجدت‭ ‬أن‭ ‬مصطلح‭ (‬الإتقان‭) ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬أو‭ ‬شبيه‭ ‬مصطلح‭ (‬الجودة‭)‬،‭ ‬إلا‭ ‬إننا‭ ‬وللأسف‭ ‬‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬التقليد‭ ‬بالغرب‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬نستعيض‭ ‬مصطلحاتنا‭ ‬العربية‭ ‬الأصلية‭ ‬ببعض‭ ‬المصطلحات‭ ‬الغربية،‭ ‬وذلك‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يتهمنا‭ ‬المثقفون‭ ‬الغرب‭ ‬أننا‭ ‬متخلفون،‭ ‬عمومًا‭ ‬هذا‭ ‬ليس‭ ‬موضوعنا‭.‬

والإتقان‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬يعني؛‭ ‬أتقن‭ ‬الشيء‭ ‬بمعنى‭ ‬أحكمه،‭ ‬وأحسن‭ ‬صنعه‭ ‬وفعله‭ ‬بأحسن‭ ‬صورة،‭ ‬والإتقان‭ ‬هو‭ ‬إحكام‭ ‬الأشياء‭. ‬وأما‭ ‬اصطلاحًا؛‭ ‬فهو‭ ‬القيام‭ ‬بالعمل‭ ‬الموكل‭ ‬للشخص‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬وجه‭ ‬وإجادته‭ ‬بالصورة‭ ‬المطلوبة‭ ‬والكاملة‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬نقصان‭.‬

وكذلك‭ ‬يعرف‭ ‬إتقان‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬أداء‭ ‬المهمة‭ ‬المطلوبة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬خلل‭ ‬بدقة‭ ‬ومهارة‭ ‬وإخلاص،‭ ‬والالتزام‭ ‬بالمتطلبات‭ ‬والتقيد‭ ‬بالضوابط‭ ‬المتعلقة‭ ‬باستعمال‭ ‬تقنيات‭ ‬معينة،‭ ‬مع‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المحدد‭ ‬مسبقًا‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬تأخير،‭ ‬والتفكير‭ ‬بتطوير‭ ‬العمل‭ ‬لاحقًا‭ ‬لمستويات‭ ‬أفضل‭.‬

ووجدنا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬إتقان‭ ‬العمل‭ ‬والأمور‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬خمسة‭ ‬أمور‭ ‬أساسية،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تهمنا،‭ ‬وهي‭:‬

{‭ ‬إخلاص‭ ‬النية‭ ‬لله‭ ‬تعالى،‭ ‬والبعد‭ ‬عن‭ ‬الرياء‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬والعمل‭ ‬ومراقبة‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة‭.‬

{‭ ‬معرفة‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬نقوم‭ ‬به،‭ ‬وبكل‭ ‬تفاصيله‭.‬

{‭ ‬عدم‭ ‬التسويف‭ ‬وتأجيل‭ ‬عمل‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬الغد‭ ‬وإنجاز‭ ‬العمل‭ ‬أولا‭ ‬بأول‭.‬

{‭ ‬استغلال‭ ‬الوقت‭ ‬وفهم‭ ‬إدارته‭ ‬بالشكل‭ ‬السليم‭.‬

{‭ ‬تقديم‭ ‬الأهم‭ ‬على‭ ‬المهم‭ ‬وتطبيق،‭ ‬ومعرفة‭ ‬فقه‭ ‬الأولويات‭ ‬في‭ ‬العمل‭.‬

والآن،‭ ‬دعونا‭ ‬نعيد‭ ‬قراءة‭ ‬قصة‭ ‬البنّاء‭ ‬عبدالله،‭ ‬فهل‭ ‬أتقن‭ ‬عمله؟‭ ‬وهل‭ ‬توفرت‭ ‬فيه‭ ‬هذه‭ ‬النقاط؟‭ ‬أترك‭ ‬لكم‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التساؤل‭.‬

وأنا‭ ‬أكتب‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬وأعبث‭ ‬بأوراق‭ ‬جدي‭ ‬الصفراء،‭ ‬خطر‭ ‬على‭ ‬بالي‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف،‭ ‬الذي‭ ‬ينص‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قَالَه‭ ‬رَسُولُ‭ ‬اللهِ‭ ‬صَلَّى‭ ‬اللهُ‭ ‬عَلَيْهِ‭ ‬وَسَلَّمَ‭: ‬‮«‬إِنْ‭ ‬قَامَتِ‭ ‬السَّاعَةُ‭ ‬وَفِي‭ ‬يَدِ‭ ‬أَحَدِكُمْ‭ ‬فَسِيلَةٌ،‭ ‬فَإِنِ‭ ‬اسْتَطَاعَ‭ ‬أَنْ‭ ‬لَا‭ ‬تَقُومَ‭ ‬حَتَّى‭ ‬يَغْرِسَهَا‭ ‬فَلْيَغْرِسْ‮»‬،‭ ‬البخاري‭ ‬وأحمد‭.‬

يمكن‭ ‬أن‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بموضوع‭ ‬إتقان‭ ‬العمل‭ ‬وخواتيم‭ ‬الأعمال‭ ‬واستدامتها‭ ‬بصورة‭ ‬كبيرة،‭ ‬وهو‭ ‬مرشد‭ ‬إداري‭ ‬عالي‭ ‬المستوى،‭ ‬فالقضية‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬زرع‭ ‬نخلة‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬الإنسان‭ ‬الأخيرة‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬إتمام‭ ‬العمل‭ ‬واتقانه‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬مجريات‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬حولك،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬الدنيا‭ ‬كلها‭ ‬ستنتهي‭.‬

ماذا‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف؟‭ ‬وإلى‭ ‬ماذا‭ ‬يرمي؟‭ ‬

تصور‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬انفجارات‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية،‭ ‬وتدهور‭ ‬الجبال‭ ‬وتهدمها،‭ ‬وانتشار‭ ‬الزلازل‭ ‬الضخمة‭ ‬التي‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬قياس‭ ‬على‭ ‬مقياس‭ ‬ريختر،‭ ‬وانفجار‭ ‬البراكين،‭ ‬والشمس‭ ‬ارتفعت‭ ‬درجة‭ ‬حرارتها‭ ‬حتى‭ ‬وأنها‭ ‬من‭ ‬مكانها‭ ‬أصبحت‭ ‬تحرق‭ ‬الأرض،‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الانفطار‭ ‬‭ ‬الآية‭ ‬5‭ (‬إِذَا‭ ‬السَّمَاءُ‭ ‬انفَطَرَتْ،‭ ‬وَإِذَا‭ ‬الْكَوَاكِبُ‭ ‬انتَثَرَتْ،‮ ‬وَإِذَا‭ ‬الْبِحَارُ‭ ‬فُجِّرَتْ،‮ ‬وَإِذَا‭ ‬الْقُبُورُ‭ ‬بُعْثِرَتْ،‮ ‬عَلِمَتْ‭ ‬نَفْسٌ‭ ‬مَا‭ ‬قَدَّمَتْ‭ ‬وَأَخَّرَتْ‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬لحظات‭ ‬أهوال‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬حين‭ ‬تُختم‭ ‬الحياة،‭ ‬وتُقطع‭ ‬أنفاس‭ ‬البشرية،‭ ‬ويعلم‭ ‬حينها‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬النهاية‭ ‬قد‭ ‬أزفت،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬يطلب‭ ‬منك‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬أن‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬خواتيم‭ ‬أعمالك‭ ‬وأن‭ ‬تتقن‭ ‬العمل‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬به‭.‬

هل‭ ‬نتصور‭ ‬ماذا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك؟‭ ‬نحن‭ ‬نعلم،‭ ‬ورسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬نفسية‭ ‬الإنسان‭ ‬وحتى‭ ‬جسده‭ ‬وقوته‭ ‬لن‭ ‬تساعداه‭ ‬حتى‭ ‬يكمل‭ ‬غرس‭ ‬فسيلته،‭ ‬ثم‭ ‬ماذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تصنع‭ ‬فسيلتي‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التغيرات‭ ‬والأهوال‭ ‬التي‭ ‬تحدث؟

ولكن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الإتقان‭ ‬والاهتمام‭ ‬بخواتيم‭ ‬الأعمال،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬الجودة‭ ‬والتنمية‭ ‬المستدامة‭ ‬كما‭ ‬تسمى‭ ‬اليوم‭.‬

والآن‭ ‬لننظر‭ ‬حولنا،‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬والمفكرين‭ ‬قبعوا‭ ‬في‭ ‬الظل،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬أن‭ ‬أهل‭ ‬الصخب‭ ‬طفحوا‭ ‬على‭ ‬السطح،‭ ‬تجد‭ ‬أهل‭ ‬الصخب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬وخاصة‭ ‬بعد‭ ‬انتشار‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬تجدهم‭ ‬يرقصون‭ ‬ويغنون‭ ‬ويحتفلون‭ ‬غير‭ ‬آبهين‭ ‬بأي‭ ‬قيم‭ ‬أو‭ ‬مبادئ،‭ ‬ويمكن‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬أن‭ ‬يقوموا‭ ‬بتغيير‭ ‬جلدهم،‭ ‬فتارة‭ ‬يصفقون‭ ‬لهذا‭ ‬وبعدها‭ ‬بهنية‭ ‬يتغيرون‭ ‬ويصفقون‭ ‬للنقيض،‭ ‬لأنهم‭ ‬أهل‭ ‬صخب‭ ‬فهم‭ ‬يعيشون‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬مبادئ‭ ‬وقيم‭. ‬ولكن‭ ‬أهل‭ ‬الإبداع‭ ‬والقيم‭ ‬والمبادئ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬الظل،‭ ‬وربما‭ ‬تراهم‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر‭ ‬يطلون‭ ‬برؤوسهم‭ ‬لمحاولة‭ ‬إثبات‭ ‬وجودهم‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬يكتشفون‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الظل،‭ ‬فالكثير‭ ‬مما‭ ‬يقدم‭ ‬لا‭ ‬يندرج‭ ‬تحت‭ ‬قائمة‭ ‬الإبداع‭ ‬أو‭ ‬الإتقان‭ ‬أو‭ ‬الاستدامة‭.‬

وهكذا‭ ‬فكرة‭ ‬البنّاء‭ ‬عبدالله‭ ‬عندما‭ ‬كُلف‭ ‬ببناء‭ ‬المنزل‭ ‬الأخير،‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬أو‭ ‬الإتقان‭ ‬أو‭ ‬الاستدامة،‭ ‬وإنما‭ ‬فكر‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬سيخرج‭ ‬فيها‭ ‬للتقاعد،‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬سيترك‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬رجعة،‭ ‬فكر‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬فقط،‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬بعقلية‭ ‬الاستدامة‭ ‬والإتقان،‭ ‬فمن‭ ‬فرط‭ ‬حماسه‭ ‬للخروج‭ ‬لم‭ ‬يزرع‭ ‬فسيلته‭ ‬بطريقة‭ ‬متقنة،‭ ‬وإنما‭ ‬وضعها‭ ‬بأي‭ ‬طريقة‭ ‬كانت،‭ ‬فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬مخيبة‭ ‬له‭ ‬ولتفكيره،‭ ‬فهو‭ ‬لم‭ ‬يعتقد‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬خير‭ ‬سنوات‭ ‬العمر‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬الإتقان‭ ‬والإبداع‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يخدماه،‭ ‬فخسر‭ ‬استدامة‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬المفروض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ملكه‭.‬

فهل‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نفكر‭ ‬فيما‭ ‬قاله‭ ‬جدي‭ ‬في‭ ‬أوراقه‭ ‬الصفراء؟‭  ‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا