مبدئيًا لسنا ضد استخدام الذكاء الاصطناعي أو كل ما يتعلق بالخوارزميات والعالم الافتراضي والإنترنت وعصر الفضائيات المعلوماتية، وما إلى ذلك، وإنما نجد أنه من المناسب ونحن نعيش هذا العصر الجديد الذي دخلنا فيه أو الذي سوف نولج فيه بقوة ضغط العصر الحديث أن نفكر في موقع الإنسان من كل الذي سوف يأتي، أين سوف يقبع الإنسان؟
لا نعلم بالتحديد متى دخل الإنسان عصر الذكاء الاصطناعي والخوارزميات الذكية، وإنما نعتقد أن الثورة الصناعية الأولى التي بدأت في منتصف القرن الثامن عشر مثلت البدايات الحقيقية لذلك، وربما كانت هناك قبل تلك الفترة بعض الارهاصات إلا أنها لم تكن بمثل هذه الكثافة والقوة التي ظهرت بها في منتصف القرن الثامن عشر، إذ دخلت الآلات كل المصانع والعديد من المنشآت الأخرى.
ويروى أنه في 1867 عندما عمل توماس أديسون –العالم المشهور– في مكتب البرقيات والتلغراف، طلب أن يعمل في المناوبة الليلية، وذلك حتى يتسع وقته للقراءة والتجريب، وخاصة أن بالليل – تقريبًا لا يوجد عمل كبير– وعلى الرغم من ذلك كان يُطلب من المناوبين بالليل أن يرسلوا كل ساعة رسالة إلى المكتب الرئيسي حتى يتأكد الرؤساء أن المناوب أو عامل البرقيات لم ينم، وكان هذا يزعج أديسون لأنه كان يقطع عليه مزاج القراءة والتفكير والاختراع، فابتكر آلة عبارة عن مسجل صوتي كهربائي، وكان هذا الجهاز يطلق كل ساعة وبصورة آلية رسالة إلى المكتب الرئيسي ليخبرهم أنه مستيقظ ولم ينم. ربما كانت هذه أول فكرة، وربما لم تكن.
ونشرت اليونسكو في رسالتها هذا البحث، الذي سنقتبس منه هذه الفقرة؛ «الذكاء الاصطناعي هو نظام علمي بدأ رسميًّا في عام 1956 في كلية دارتموث في هانوفر بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال انعقاد مدرسة صيفية نظمها أربعة باحثين أمريكيين: جون مكارثي، مارفن مينسكي، ناثانييل روتشستر وكلود شانون. ومنذ ذلك الحين، نجح مصطلح (الذكاء الاصطناعي) الذي من المحتمل أن يكون قد اخترع في البداية لإثارة انتباه الجمهور، بما أنه أصبح شائعًا لدرجة أن لا أحد يجهله اليوم، وأن هذا الفرع من المعلوماتية أخذ في الانتشار أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وبما أن التقنيات التي انبثقت عنه أسهمت بقدر كبير في تغيير العالم على مدى الستين سنة الماضية.
إلّا أن نجاح مصطلح (الذكاء الاصطناعي) يرتكز في بعض الأحيان على سوء فهم عندما يشير إلى كيان اصطناعي موهوب بالذكاء، ومن ثم، قادر على منافسة الكائنات البشرية. هذه الفكرة التي تحيل إلى الأساطير والخرافات القديمة، مثل أسطورة غوليم، أُعيد إحياؤها مؤخرًا من قبل شخصيات معاصرة مثل الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنغ (1942-2018) أو رجل الأعمال الأمريكي إلون ماسك، ومن قبل المفكر المستقبلي الأمريكي راي كورزويل أو أنصار ما يسمى اليوم (الذكاء الاصطناعي القوي) أو (الذكاء الاصطناعي العام)، هذا ولن نستعمل في هذا المقال المعنى الثاني لأنه يشهد فقط على خيال مفعم، يستلهم من الخيال العلمي أكثر من الواقع العلمي الملموس الذي أثبتته الاختبارات والملاحظات التجريبية».
في 26 سبتمبر 1983 كان (ستانيسلاف بيتروف) وهو ضابط عسكري روسي، وكان مسؤولاً آنذاك عن نظام الإنذار النووي المبكر الذي يحمي النطاق الجوي السوفييتي، وكانت وظيفته تنبيه رؤسائه على الفور إن أظهر الحاسوب أية علامة على أي هجوم أمريكي.
وفي تلك الليلة كان بيتروف في الخدمة عندما بدأت صفارات الإنذار في العويل بعد منتصف الليل بقليل، وكان هذا هو الإنذار الذي يخشاه الجميع، إذ اكتشفت الأقمار الصناعية السوفيتية أن صواريخ تابعة للجيش الأمريكي متجهة إلى الأراضي الروسية، وكان ذلك إبان الحرب الباردة، فاضطرب المكان وكان لزامًا على بيتروف أن يبلغ رؤسائه بأسرع ما يمكن حتى يتمكنوا من الرد، ويمكن بعدها أن تقوم حرب نووية تدمر الكرة الأرض كلها، ولكن بيتروف لم يكن يثق كثيرًا في الحواسيب والخوارزميات، لذلك تريث قليلا وكانت مغامرة، إذ إن للثواني قيمة مهمة في هذه اللحظات، فالصواريخ كما تشير الحواسيب قادمة إلى الأراضي الروسية لا محال، إلا أن بيتروف عمل عقله في الموضوع فوجد أنه ليس من المنطق العسكري أن تبدأ أمريكا الضربة العسكرية الأولى بخمسة صواريخ فقط كما يشير الحاسوب، فتريث وفكر، فهو الآن أمام خيارين: أولهما: أن يبلغ وينذر القيادة بشأن هذا الإنذار ويرسل العالم إلى حرب نووية، وإما أن ينتظر ويتجاهل البروتوكول، ويحمي العالم من كل هذا الخراب، فقبع في موقعه – كما يقول في مذكراته– حوالي 23 دقيقة وكانت أطول 23 دقيقة تمر في حياته، ولكن بعد هذا الوقت وجد أن الصواريخ النووية لم تهبط على الأراضي الروسية وأن الإنذار لم يكن حقيقيا، وأن الحواسيب والخوارزميات قد أخطأت.
ولربما لم تكن هي المرة الأولى أو الأخيرة التي يخطئ فيها الحاسوب، فالقصص كثيرة، فالحواسيب تعتمد في تفكيرها على المنطق الرقمي الذي يتم برمجته عليه، وهو لا يعتمد على المنطق التحليلي أو التفكير المنطقي التحليلي لذلك فإن القرار الذي يتخذه يجب أن يدرس بطريقة عقلانية تحليلية، وهذه وظيفة الإنسان وعقل الإنسان، وهذا لا يعني أبدًا أن الإنسان لا يخطئ، بل على العكس فجزء كبير من الحروب والمشاكل والأزمات التي مرت على البشرية كان بسبب الإنسان نفسه وأخطائه.
قال الدكتور سامر عبيدات، المدير التنفيذي لمجموعة ستاليون للذكاء الاصطناعي، في دراسة نشرتها مجلة القافلة، نقتبس منها هذه الجزئية: «من المتوقّع أن يقود الذكاء الاصطناعي معدّلات الإنتاجية، والناتج الإجمالي للاقتصاد العالَمي نحو النموّ بما يُقدّر بـ15.7 تريليون دولار بحلول عام 2030م، وهو رقم يزيد على الناتج الحالي للصين والهند معًا. سيقود الذكاء الاصطناعي هذا النموّ عبر قيامه بالمهام والوظائف التي يقوم بها البشر حاليًا، ولكن بشكلٍ أسرع وأرخص وأكثر دقّة، وسوف يجعل عمليات التنبّؤ أقل تكلفةً وأكثر تحديدًا، فضلاً عن التعرّف على الأنماط والسلوكيّات في البيانات الضخمة (Big Data)، وتخصيص الخدمات والمُنتجات، وخدمة أعدادٍ كبيرة من العملاء والمواطنين بكفاءةٍ وجودة عالية، وعلى مدار الساعة.
ولكن إذا كانت تكلفة تمكين هذا الاقتصاد الضخم، هي المنافسة غير العادلة مع أنظمة ذكية تقوم بوظائفنا وأعمالنا بكفاءةٍ وإنتاجية عالية، والقلق كلّه يكمن في أن نجد أنفسنا بلا عمل في المستقبل القريب».
ثم يواصل ويقول: «يمكننا اليوم أن نستنسخ رقميًّا أيّ إنسانٍ لبناء توأم رقمي ذكي اصطناعيًا، يشبهه تمامًا في الشكل والصوت والشخصية وطريقة الكلام، فضلاً عن تعابير الوجه والمعارف والخبرات. ومن الممكن تقنيًا لهذا التوأم الرقمي أن يعزّز قدرة الإنسان على تجاوز حدود الزمان والمكان، ليتواصل بالنيابة عنه مع آلاف أو ملايين الأشخاص بلغاتٍ عدّة وفي أماكن مختلفة في الوقت نفسه. هذا ما أقوم به اليوم مع فريقٍ من العلماء والمهندسين البارزين في مشروع (جيميناي Project Geminai) لبحث وتطوير إمكانات استنساخ العقل البشري رقميًّا، بهدف بناء توأم رقمي يمثّل صاحبه البشري في العالَم الافتراضي.
وهذا ليس خيالاً علميًّا، فكلّ ما يقوم به الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، يمثّل تحميلاً لما في عقولهم من أفكار ومعارف وذكريات، لكنّها مبعثرة. يمكننا معالجة هذه البيانات لتشكيل الشخصية الرقمية، وعمل نسخة أو توأم رقمي لأيّ شخصٍ بهدف تعزيز قدراته في العالَم الافتراضي، ودوره في اقتصادات المستقبل، فبدلاً من أن يفقد الإنسان وظيفته بسبب نظام ذكاء اصطناعي تجاري، سيتمكّن من استخدام نسخته الرقمية الذكية لأداء وظيفته، وتعزيز دوره في سوق العمل المستقبلي.
وفي المقابل، يقول الدكتور عبيدات: «وتشير التقديرات إلى أنّ حوالي 800 مليون شخص سيفقدون وظائفهم خلال الأعوام المقبلة، بل يتوقّع بعض العلماء أن يحلّ الذكاء الاصطناعي مكان البشر في 99% من الوظائف في غضون العقدين المقبِلين. كيف ستكون النتيجة برأيكم؟ البطالة واسعة الانتشار، وهي أحد أهمّ المخرجات المتوقّعة للثورة الصناعية الرابعة».
لكن وعلى الرغم من أن هذه التكنولوجيا تعدُ بإنتاج عالمٍ أفضل، إلّا أنّ المستقبل يهدّد كثيرًا من العُمّال المهرة بفقدان وظائفهم، وسيطول التهديد الدول النامية، وخصوصًا في المنطقة العربية وإفريقيا. في حين يتوقّع الخبراء أن يحصل العُمّال والمُحترفون المتضرّرون في الدول المتقدّمة على دخلٍ أساسي تعويضي، إذ ستتمكّن دولهم المتطوّرة من تغطية هذه التكاليف عبرَ فرض الضرائب على أرباح الشركات المُنتجة لهذه التكنولوجيات الذكية.
نتوقف هنا قليلاً لنتساءل ونسأل أنفسنا والمهتمين بالذكاء الاصطناعي، هل يقف الإنسان اليوم على أعتاب منعطف تاريخي حاد لم يسبق له مثيل؟ هل من المتوقع أن يتحكم الذكاء الاصطناعي في يوم ما في كل مرافق ومفاصل الحياة، ويجلس الإنسان البسيط يشاهد الآلة تعمل وتنتج ويقف هو في طوابير المتسولين من أجل لقمة يعيش عليها؟
إن كان العصر القادم هو عصر المعلومات والفضائيات والذكاء الاصطناعي، وهي التي تمد الإنسان القوي الذكي الكبير بالقوة، ترى أين يمكن أن يعيش الإنسان البسيط المتواضع؟ هل سيصارع الإنسان على سلطته ووجوده أمام الحواسيب والذكاء الاصطناعي؟ من سينتصر في النهاية الآلة أم الإنسان؟
لا أعرف.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك