بقلم: فلاديسلاف جرنكيفيتش
ينحني الاقتصاد الروسي أحيانا لكنه لا ينكسر. لقد صمدت روسيا أمام صدمة العقوبات الغربية العام الماضي، ولكن بثمن باهظ، وسيكون عاما 2023 و2024 أكثر صعوبة.
لأكثر من عام، تعرض الاقتصاد الروسي لعقوبات قاسية للغاية، ولكن على الرغم من التوقعات العديدة، يبدو أنه ليس في حالة احتضار، بل إنه أبعد ما يكون عن مثل هذا الوضع الذي يصوره البعض باستخدام مفردات سلبية.
لا يمكن تفسير صمود الاقتصاد الروسي فقط بتوفر ظروف ملائمة أو تضافر عدة عوامل مواتية، بل إن ذلك يعزى أساسا إلى السياسات التي انتهجتها سلطات موسكو منذ إطلاق عمليتها العسكرية في أوكرانيا.
مر عام 2022 وسط توقعات بالانهيار. تنافس الاقتصاديون ووسائل الإعلام مع بعضهم البعض في التنبؤ إلى متى يمكن للاقتصاد والسوق الداخلية في روسيا أن يحتفظا باحتياطيهما. في البداية تحدث هؤلاء عن ثلاثة أو أربعة أشهر، معلنين حدوث «مشاكل خطيرة» في الصيف.
راجع هؤلاء الخبراء حساباتهم وتوقعاتهم ثم أجلوا ساعة الصفر حتى الخريف، معترفين بأن أعمالنا اليوم، حتى وسائل الإعلام الغربية تتجاهل بشكل متزايد خطر «الانهيار الاقتصادي لموسكو»، وتصر أكثر على عودة الازدهار فترة طويلة وصعبة.
على الرغم من كل هذه الصعاب والتحديات، فقد صمد الاقتصاد الروسي بشكل جيد أمام العقوبات الغربية الشديدة، كما كتبت وكالة رويترز البريطانية. باعتراف الجميع، خسر البنك المركزي الروسي 300 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي من الذهب، لكن سلطات موسكو عرفت كيف تحول دون انهيار النظام المالي الروسي.
لقد نجحت سلطات موسكو في إيجاد أسواق جديدة. لذلك يمكن للرئيس فلاديمير بوتين «تحصين روسيا بفضل ما بنته سلطاتها المالية».
يعتقد الخبراء الروس أن صمود الاقتصاد والانخفاض الطفيف نسبيًا في الناتج المحلي إلى أقل من 2.1% هما نتيجة لعدد كبير من العوامل.
تم تعويض الصدمة الأولية في ربيع عام 2022 من خلال تدابير فعالة وموجهة مكنت روسيا من تجنب حدوث أي أزمة نقدية ومالية كان من الممكن أن تؤدي إلى تقويض الاقتصاد وانهيار النظام المصرفي والتضخم المرتفع للغاية، ما أدى إلى خفض قيمة الروبل»، كما يؤكد فلاديمير كوفاليوف، المحلل في شركة Tele Trade.
تم رفع سعر الفائدة الرئيسي من قبل البنك المركزي الروسي إلى 20%، كما تم فرض سقف على شراء وتحويل العملات وبيع الأصول الروسية لغير المقيمين – كل هذه الإجراءات وغيرها كانت صارمة لكنها آتت أكلها.
وفقا لإيجور نيكولاييف، مدير الأبحاث في معهد الاقتصاد التابع لأكاديمية العلوم الروسية، فقد تم اتخاذ قرار آخر بالغ الأهمية وهو يتمثل في إنشاء واردات موازية. في شهر أبريل 2022 قدرت مجلة فوربس الأمريكية الانخفاض في الواردات الروسية بـقرابة 50% على أقل تقدير.
ولكن بحلول شهر أكتوبر، بلغ متوسط الزيادة الشهرية في حجم الواردات الموازية 18% (20% من حيث القيمة). في أوائل شهر مارس 2023، أفادت مجلة بلومبرج، نقلاً عن مصدر رفيع في الاتحاد الأوروبي، أن الواردات الروسية عادت تقريبًا إلى مستويات 2020.
بالطبع، لعب عامل الحظ دورًا في هذا الجانب. وحتى لو كانت العقوبات الأولى شديدة، فقد كان وقعها مؤلمًا خاصة على الواردات وأنشطة الشركات الأجنبية في روسيا، في حين لم تتأثر الصادرات الروسية كثيرا، مع انخفاض بنسبة 40% تقريبًا في التجارة الخارجية، ما أثر أيضا في منطقة اليورو التي ترتبط بعلاقات تجارية كبيرة مع روسيا.
في الحقيقة فقد لعبت الزيادة الحادة في الإنفاق الحكومي دورًا رئيسيًا، حتى لو كانت على حساب تفاقم عجز الميزانية.
وفقًا للخبراء الاقتصاديين والماليين، فقد ساعدت الطلبات العامة في دعم الإنتاج في مختلف القطاعات، فضلاً عن الحفاظ على سلاسل التوريد. تم تحديد حجم الإنفاق في الميزانية من البداية بمبلغ 29000 مليار روبل، غير أنه ارتفع ليصل إلى 31000 مليار روبل [344 مليار يورو] في نهاية العام، وهي زيادة معقولة رغم العقوبات والضغوطات.
إلى حدود شهر فبراير 2022، انخفضت عائدات الميزانية من الضرائب على النفط والمنتجات النفطية بنسبة 48%: بسبب العقوبات، وكان على المصدرين أن يقدموا لشركائهم خصومات كبيرة للغاية.
ومن جهة أخرى أدى التراجع الحاد في حجم المبيعات إلى انخفاض عائدات تصدير الغاز بنسبة 42%. ومع ذلك، نجد أن السلطات الروسية قد عمدت مرة أخرى إلى اتخاذ التدابير المناسبة.
لم تعثر سلطات موسكو على مشترين جدد في آسيا فحسب، بل شكلت أيضًا «أسطول الظل» في وقت قصير للغاية. يتألف هذا الأسطول من مئات الناقلات، وهو أسطول ضخم يتولى نقل الذهب الأسود إلى مختلف البلدان ما وضع العقوبات الغربية في ورطة.
ونتيجة لذلك، وفي بداية شهر مارس 2023، اقترب سعر النفط الروسي من السقف الثابت، بل وتجاوزه بحسب بعض الأرقام، غير أن كل تطور وكل قرار يكون له ثمن بلغة العرف الاقتصادي والمالي.
يمول الكرملين النشاط الاقتصادي من خلال تفاقم عجز الميزانية، الذي بلغ 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 أو 3300 مليار روبل، وهو ما يعادل 36 مليار يورو.
سيسجل الاقتصاد الروسي خلال هذا العام والعامين المقبلين أيضًا نسبة عجز. فمن أين ستأتي سلطات موسكو بالأموال اللازمة لسد هذه الهوة؟ تعتبر ناتاليا زوباريفيتش، الأستاذة في جامعة موسكو الحكومية، على قناتها على منصة تلغرام إن سلطات موسكو تعالج في الوقت الحالي هذه المشكلة الاقتصادية والمالية بطريقة حكيمة: فهي تعتمد على صندوق الرخاء الوطني، أي صندوق الثروة السيادي وتصدر قرارات حكيمة تتعلق بالأوراق المالية بشكل لا يؤدي إلى أي «خلل في توازنات الاقتصاد الكلي».
يتم إطلاق القروض المحلية كما يتم جمع أموال إضافية تحت ذرائع مختلفة من الشركات الروسية الكبيرة. تفاؤل مفرط.
ومع ذلك، هناك انطباع بأن السلطات الروسية تنظر إلى المستقبل بتفاؤل مفرط. تتم مراجعة توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الرسمية بالزيادة شهريًا. في أحدث تقييم له يتوقع البنك المركزي زيادة بنسبة 1% في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 ويعتقد أنه يمكن تعديل هذه التوقعات صعودًا.
ومع ذلك، هناك انطباع بأن السلطات الروسية تنظر إلى المستقبل بتفاؤل مفرط. تتم مراجعة توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الرسمية بالزيادة شهريًا. في آخر استعراض له «ما الاتجاهات التي تخبرنا؟»، يتوقع البنك المركزي زيادة بنسبة 1% في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024 ويعتقد أنه يمكن تعديل هذه التوقعات صعودًا.
أما وزارة التنمية الاقتصادية فهي تتوقع تحقيق نسبة 2%. فيما يتوقع صندوق النقد الدولي نسبة نمو لا تتجاوز 03% هذا العام قبل أن يرفع توقعاته إلى نسبة 0.7% في شهر أبريل. يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد الروسي بنسبة 1.3% على أقل تقدير. وبالنسبة إلى البنك المركزي الروسي، يجب أن يكون دعم الميزانية السخي للاقتصاد الأداة الرئيسية لتحفيز النمو. تذهب هذه الأموال إلى دعم المجهود الحربي وتحفيز الاقتصاد.
يعتبر الخبير إيغور نيكولايف أن النمو من خلال الإنفاق العام قد يؤدي إلى تحقيق تطور زائف، وهو يقول في هذا الصدد: «إن الحديث عن النمو سابق لأوانه، لأننا لا نعرف حقًا كيف نحققه. يعتمد ذلك على عشرات العوامل، ولكن عندما يتعلق الأمر بروسيا يمكننا التمييز بشكل أساسي بين ثلاثة عوامل: الاستثمار والاستهلاك المحلي والصادرات». في العام الماضي، زادت الاستثمارات فعليًا بأكثر من 5% - كان على الشركات إكمال المشاريع التي بدأوها
بالإضافة إلى ذلك، أدت الاستثمارات المكثفة للتعويض عن الواردات إلى الحيلولة دون توقف وإفلاس بعض القطاعات الاقتصادية.
ولكن في الوقت الحالي لا يتوقع حدوث زيادة في الاستثمار، بل على العكس من ذلك، من المتوقع حدوث انخفاض طفيف، بحيث لم يعد عامل النمو هذا مناسبًا.
ماذا عن الاستهلاك؟ وفقًا لتوقعات عام 2023 وللفترة المخطط لها حتى عام 2025، يجب أن تكون المصدر الرئيسي للنمو.
لكن في العام الماضي انخفض الدخل الحقيقي المتاح للسكان بنسبة 1%. وذلك بالرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة (زيادة المعاشات والحد الأدنى للأجور).
في عام 2022، وفقًا لـ Rosstat، انخفض حجم تجارة التجزئة بنسبة 6.7%، مع رقم قياسي قدره 11% لشهر ديسمبر، على أساس سنوي. هل يمكن لمثل هذا الاستهلاك البطيء أن يدفع الاقتصاد إلى النهوض؟
لن تكون الصادرات قادرة على دفع عجلة النمو، لأن العقوبات الغربية موجهة ضدهم على وجه التحديد. قال فاتح بيرول مدير وكالة الطاقة الدولية لرويترز: «في الأشهر المقبلة نتوقع تراجعا أكثر حدة في عائدات النفط والغاز. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن يزداد الاتجاه النزولي على المدى المتوسط بسبب الافتقار إلى الوصول إلى التقنيات والاستثمارات».
وفقًا لإيجور نيكولاييف، كانت الحكومة قادرة على الرد بشكل تدريجي، لكنها تفتقر إلى التدابير الاستراتيجية. قد تعني الإستراتيجية الصحيحة عدم متابعة النمو بأي ثمن –وهو أمر مستحيل الآن– ولكن للحفاظ على الاقتصاد واستقراره.
خاصة وأن الضغوط الخارجية على روسيا قد تستمر في التعزيز، ولن تتمكن الدولة من الانغماس بشكل دائم في خزائنها وسد العجز في الميزانية.
تتضاءل سيولة صناديق الاستثمار المتداولة، وعائدات السندات الحكومية آخذة في الارتفاع (تجاوز الإصدار الأخير 10%). لا يسع المرء إلا أن يفكر في ما حدث في عام 1998 مع سندات GKOs (سندات قصيرة الأجل أصدرتها الدولة الروسية في عام 1993. أدت المعدلات المرتفعة بشكل متزايد إلى توقف الدفع والأزمة المالية الروسية في عام 1998).
في عام 2023، لدينا ما يكفي من الموارد المتاحة، كما خلص الباحث، لكن آفاق عام 2024 والسنوات التالية ليست أقل إثارة للقلق.
كورييه إنترناشيونال
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك