بقلم: ملفين جودمان
نجحت الصين إلى حد كبير في تحقيق عدة مكاسب دبلوماسية مؤخرا من الشرق الأوسط إلى روسيا مرورا بالقارة الإفريقية، كما توطدت العلاقات ما بين بكين وموسكو على وقع الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا، ولا شك أن هذا الزخم الدبلوماسي الصيني يمثل جرس الإنذار لفريق الأمن القومي لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، ولا سيما وزارة الخارجية بقيادة أنتوني بلينكن.
كشف هذا النجاح الملحوظ الذي تحققه الصين عن عيوب ومواطن خلل في سياسة الأمن القومي الأمريكية التي تنتهجها إدارة الرئيس جو بايدن، لا سيما سياسة عدم الاعتراف وكذلك الاعتماد على استخدام القوة العسكرية لتحقيق مكاسب في السياسة الدولية. من الواضح أن الأدوات التي تقوم عليها قوتنا لا تعمل بالشكل المطلوب.
استشهد ماوتسي تونج في كثير من الأحيان بمثل صيني مأثور عن سلالة هان التي حكمت الصين: «بغض النظر عما إذا كانت قطة بيضاء أو قطة سوداء. طالما أنها تستطيع اصطياد الفئران، فهي قطة جيدة». فعل دينج شياو بينج نفس الشيء، حيث إنه كان يستشهد بهذا القول المأثور وبهذا المثل لتبرير التغييرات الجذرية في السياسة الداخلية.
لقد وضع شي جين بينج ضمنيًا هذا القول المأثور قيد التنفيذ في علاقات الأمن القومي من خلال الحفاظ على أهمية العلاقات السياسية الصحيحة مع جميع البلدان بغض النظر عن توجهها الإيديولوجي. نتيجة لذلك، تتمتع الصين بعلاقات مستقرة مع معظم أصدقائها وخصومها.
على العكس من ذلك، خلال القرن العشرين الماضي، اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مفرط على سياسة عدم الاعتراف بالدول التي لم تكن تحبذها سلطات واشنطن أو تتوافق معها لأسباب إيديولوجية.
كان على الاتحاد السوفيتي الانتظار ست عشرة سنة للحصول على اعتراف من الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي تطلب في النهاية تفهم الرئيس روزفلت لعدم جدوى تجاهل الكرملين في وقت كانت هناك حاجة إلى حلفاء ضد القيادة الجديدة الخطيرة في ألمانيا.
كان دور الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية محوريًا في تمكين انتصار الحلفاء على ألمانيا، حيث تمركز ثلاثة أرباع الجيش الألماني على الجبهة الشرقية المواجهة للجيوش السوفيتية.
وبالمثل، كان على الصين أن تنتظر ما يقرب من ثلاثة عقود للحصول على اعتراف دبلوماسي من الولايات المتحدة الأمريكية، ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى معارضة سلطات واشنطن للحزب الشيوعي الصيني.
فتح الرئيس الأمريكي الجمهوري ريتشارد نيكسون ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر الباب أمام بكين بدبلوماسية سرية في أوائل عقد السبعينيات من القرن الماضي، وأكمل الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر بعد ذلك عملية ومسار الاعتراف بالصين في أواخر السبعينيات.
كانت الدبلوماسية الأمريكية أكثر نجاحًا خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي لأن جهود ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر قد خلقت علاقات أوثق بين واشنطن وبكين وبين واشنطن وموسكو أكثر من العلاقات بين موسكو وبكين.
نتيجة لتلك النجاحات الدبلوماسية، حصلت الولايات المتحدة الأمريكية على معاهدة برلين، وأسهمت بقدر كبير في تعزيز الاستقرار في القارة الأوروبية، فضلاً عن إبرام اتفاقيتين رئيسيتين للحد من الأسلحة: SALT I ومعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية.
تفتقر الولايات المتحدة الأمريكية حاليًا إلى العلاقات الدبلوماسية مع اثنين من أهم خصومها: إيران وكوريا الشمالية. لدى واشنطن قضايا ثنائية خطيرة مع كل من طهران وبيونغ يانغ، على الرغم من وجود أدلة كثيرة على أن كلاً من إيران وكوريا الشمالية على استعداد لمواصلة الحوار مع الولايات المتحدة.
لا شك أن المسألة النووية كفيلة وحدها بأن تقنع سلطات واشنطن بضرورة التشاور والحوار والاعتراف الدبلوماسي بالخصوم.
وبينما تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على القوة العسكرية لتنفيذ السياسة الخارجية، فإننا نجد اليوم أن الصين تعتمد بنجاح على العلاقات الاقتصادية في شكل مبادرة الحزام والطريق أو طريق الحرير.
أعطى هذا النهج بكين حضوراً مهماً في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي. لقد عدت مؤخرًا من كوستاريكا، حيث ركبت على الطريق السريع للبلدان الأمريكية الذي بنته إدارة أيزنهاور في الخمسينيات؛ ومع ذلك، فإن الصين هي التي تولت مسؤولية تجديد نظام الطرق السريعة في كوستاريكا اليوم.
منذ فترة إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، ظلت الولايات المتحدة تبذل قصارى جهدها للتشويش على التقدم الملموس في تنفيذ مبادرة الحزام والطريق الصينية من دون أن تحقق أي نجاح على الإطلاق في هذا الشأن.
لقد لعبت وسائل الإعلام الرئيسية التي تسير في ركاب الولايات المتحدة الأمريكية دورها من خلال الاتهام المتكرر بأن سريلانكا تواجه «مأزق الديون» بسبب مستويات الديون المرتفعة في مختلف مشاريع مبادرة الحزام والطريق التي تنفذها الصين.
في الواقع أن 80% من الديون الخارجية لسريلانكا مستحقة لمؤسسات متعددة الأطراف مثل البنك الدولي ومستثمري وول ستريت بالولايات المتحدة الأمريكية، فيما تمثل ديون سريلانكا للصين 10% فقط من إجمالي ديونها الخارجية.
نادرًا ما تستشهد وسائل الإعلام الأمريكية بنجاحات الصين في مبادرة الحزام والطريق، والتي هي واضحة تمامًا في جميع أنحاء العالم، لا سيما في الحديقة الخلفية للصين - أي الدول العشر في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).
في عام 2000، بلغت قيمة التجارة الصينية مع الدول الأعضاء في منظمة الآسيان 29 مليار دولار، ولكن بعد 20 عامًا، بلغت قيمة تجارة الصين مع الآسيان 670 مليار دولارًا، وهو ما يمثل تقريبا ضعف حجم التجارة الأمريكية مع دول الآسيان.
تجاهلت رابطة دول جنوب شرق آسيا جهود الولايات المتحدة الأمريكية لتقويض تنفيذ برامج مبادرة الحزام والطريق، التي تتضمن حاليًا أكثر من 50 مشروعًا مختلفًا. زاد انسحاب الولايات المتحدة من الشراكة عبر المحيط الهادئ من مشاكل واشنطن في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل سلطات بكين على تعزيز تجارتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، حيث حلت الصين محل الاتحاد الأوروبي (EU) كأكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي المكون من ستة أعضاء.
اعتبارًا من العام الماضي، كانت تجارة الصين مع دول مجلس التعاون الخليجي أكبر من التجارة المشتركة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع دول مجلس التعاون الخليجي. في قمة الولايات المتحدة ورابطة دول جنوب شرق آسيا العام الماضي، تعهد الرئيس جو بايدن بتقديم أكثر من 150 مليون دولار لمساعدة البنية التحتية والتأهب للأوبئة في دول الآسيان، وهو مبلغ هزيل لا يقارن مع تعهد الرئيس الصيني شي جين بينغ لعام 2021 بتقديم مبلغ 1,5 مليار دولار لمساعدة اقتصادات الآسيان على مدى فترة ثلاث سنوات. يجب على جميع أعضاء فريق الأمن القومي لإدارة جو بايدن أن يلاحظوا نجاح الصين في جميع أنحاء منطقة جنوب شرق آسيا.
لقد كررت سلطات بكين هذا النجاح في إفريقيا وكذلك في حديقتنا الخلفية ومنطقة البحر الكاريبي وأمريكا الجنوبية. يحتاج بايدن إلى إدراك أن سعي الولايات المتحدة الأمريكية لاحتواء الصين مدى السنوات العشر الماضية، قد مني بالفشل الذريع.
لقد حان الوقت لوزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية لاتباع تفكير جديد للدبلوماسية الأمريكية وتقليص التفكير القديم الذي عزز دور وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في صنع القرار في صلب الإدارة الأمريكية.
جدير بالذكر أنه لم يكن هناك صراع كبير في جنوب شرق آسيا منذ ما يقرب من 45 عامًا، أي منذ أن خاضت الصين حربًا قصيرة مع فيتنام عام 1979، وكان مفتاح الاستقرار السلمي في المنطقة هو الأمن الاقتصادي.
لا تشكل سياسات الصين الاقتصادية تهديدًا للولايات المتحدة الأمريكية. على أي حال فإن الولايات المتحدة الأمريكية غير قادرة على «احتواء» الصين الصاعدة بقوة في مختلف مناطق العالم. بشكل عام، لا تسهم القوى الاقتصادية الكبرى في جميع أنحاء العالم فقط في منظومة الأمن الدولي بشكل عام، بل إنها تمثل ورقة جيدة للولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.
كومونز
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك