العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٨٩ - الجمعة ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

فعلا من نسي قديمهُ ضاع

كتبت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬ولعي‭ ‬بقنوات‭ ‬ديسكفري‭ ‬وناشونال‭ ‬جيوغرافيك‭ ‬والقنوات‭ ‬الوثائقية‭ ‬الفضائيات‭ ‬عموما،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأنها‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬الهشك‭ ‬بشك،‭ ‬ولكن‭ ‬لأنها‭ ‬تقدم‭ ‬غذاء‭ ‬للعقل‭ ‬والفكر‭ ‬بما‭ ‬تضخه‭ ‬من‭ ‬مادة‭ ‬علمية‭ ‬موثقة‭ ‬تعرض‭ ‬بطرق‭ ‬شيقة،‭ (‬مؤخرا‭ ‬صرت‭ ‬من‭ ‬جماهير‭ ‬قناة‭ ‬يوتيوب‭ ‬لأنني‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنني‭ ‬أستطيع‭ ‬ان‭ ‬اشاهد‭ ‬فقط‭ ‬ما‭ ‬اريده‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬متى‭ ‬أشاء‭). ‬وقبل‭ ‬أيام‭ ‬كنت‭ ‬أشاهد‭ ‬في‭ ‬ديسكفري‭ ‬فيلماً‭ ‬تسجيلياً‭ ‬عن‭ ‬الإسكيمو‭ ‬ذلك‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬في‭ ‬القطب‭ ‬الشمالي‭ ‬في‭ ‬أكواخ‭ ‬يكسوها‭ ‬الجليد‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬السنة،‭ ‬وزادهم‭ ‬الوحيد‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يصطادونه‭ ‬من‭ ‬حيوانات‭ ‬بحرية،‭ ‬وشاهدت‭ ‬صبياً‭ ‬من‭ ‬الإسكيمو‭ ‬يمسك‭ ‬بندقية‭ ‬ويصوبها‭ ‬نحو‭ ‬عجل‭ ‬بحر‭ ‬ويطخه‭ ‬في‭ ‬رأسه،‭ ‬فكان‭ ‬أن‭ ‬أقامت‭ ‬العائلة‭ ‬وليمة‭ ‬كبيرة‭ ‬لأنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬ذاقت‭ ‬طعاماً‭ ‬حقيقياً‭ ‬طوال‭ ‬أربعة‭ ‬أيام‭.‬

ورأيت‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬أخرى‭ ‬كيف‭ ‬يعاني‭ ‬سكان‭ ‬صحارى‭ ‬مثل‭ ‬كلهاري‭ ‬أو‭ ‬جماعة‭ ‬الأبورجينيز‭ ‬‭ ‬وهم‭ ‬أهل‭ ‬أستراليا‭ ‬الأصليون‭ ‬الذين‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬يعيشون‭ ‬على‭ ‬صيد‭ ‬السحالي‭ ‬ويأكلون‭ ‬كل‭ ‬شيء‭: ‬كلاب‭ ‬وضفادع‭ ‬وديدان‭ ‬وتماسيح‭. ‬وتعود‭ ‬بي‭ ‬الذاكرة‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬الطفولة‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬كهرباء،‭ ‬وكنا‭ ‬نشرب‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الجدول‭ ‬المخصص‭ ‬للزراعة،‭ ‬والذي‭ ‬كانت‭ ‬تشرب‭ ‬منه‭ ‬بهائمنا،‭ ‬وكانت‭ ‬الصيحات‭ ‬الثكلى‭ ‬تتعالى‭ ‬كل‭ ‬مساء‭ ‬عندما‭ ‬يلدغ‭ ‬ثعبان‭ ‬أو‭ ‬عقرب‭ ‬شخصاً‭ ‬ما،‭ ‬ولا‭ ‬علاج‭ ‬عندنا‭ ‬لمثل‭ ‬تلك‭ ‬الحالات‭ ‬سوى‭ ‬عصير‭ ‬الليمون‭ ‬المركز‭ (‬ولليمون‭ ‬مكانة‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬الغنائي‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬ومنطقة‭ ‬الخليج‭ ‬ربما‭ ‬لانعدام‭ ‬الفواكه‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولجمال‭ ‬شكله‭ ‬وفوائده‭ ‬الصحية‭ ‬العالية‭)‬،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬كنا‭ ‬نأكل‭ ‬ثلاث‭ ‬وجبات،‭ ‬ونشرب‭ ‬الشاي‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ (‬في‭ ‬الصبح‭ ‬وبعد‭ ‬الغداء‭ ‬وعند‭ ‬المغيب‭) ‬ولدينا‭ ‬تمر‭ ‬كثير‭.‬

كانت‭ ‬طفولتي‭ ‬بائسة‭ ‬بمقاييس‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬العصر‮»‬‭ ‬مقارنة‭ ‬بحال‭ ‬غيري‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬أقل‭ ‬فقراً‭ ‬من‭ ‬بلدي،‭ ‬ولكن‭ ‬كلما‭ ‬شاهدت‭ ‬معاناة‭ ‬سكان‭ ‬الصحاري‭ ‬والأصقاع‭ ‬الجليدية‭ ‬أدرك‭ ‬أنني‭ ‬نعمت‭ ‬بطفولة‭ ‬مرفهة،‭ ‬وأنا‭ ‬أجلس‭ ‬الآن‭ ‬أمام‭ ‬كمبيوتر‭ ‬وأمامي‭ ‬على‭ ‬الحائط‭ ‬تلفزيون‭ ‬طويل‭ ‬وعريض‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬التقاط‭ ‬قناة‭ ‬يوتيوب‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬شبكة‭ ‬نت‭ ‬منزلية‭ (‬واي‭ ‬فاي‭)‬،‭ ‬وعلى‭ ‬يميني‭ ‬تلفون‭ ‬آيفون‭ ‬وعلى‭ ‬يساري‭ ‬آيباد‭ ‬ومكيف‭ ‬الهواء‭ ‬يتلاعب‭ ‬بما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬رأسي،‭ ‬ولا‭ ‬تكاد‭ ‬تمر‭ ‬ساعة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬في‭ ‬سري‭:  ‬سبحان‭ ‬الله‭..  ‬كنا‭ ‬فين‭ ‬وبقينا‭ ‬فين‭.. ‬هل‭ ‬أنا‭ ‬المرتدي‭ ‬الملابس‭ ‬الأفرنجية‭ ‬نفس‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬جعفر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرعى‭ ‬عنزات‭ ‬العائلة،‭ ‬وياما‭ ‬اضطر‭ ‬إلى‭ ‬مساعدة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العنزات‭ ‬على‭ ‬الولادة‭.  ‬يعني‭ ‬داية‭/‬قابلة‭ ‬للغنم،‭ ‬وكنت‭ ‬ماهراً‭ ‬في‭ ‬حلب‭ ‬الماعز‭.‬

دعوني‭ ‬أتباهى‭ ‬أمامكم‭ ‬بخصلة‭ ‬حباني‭ ‬الله‭ ‬إياها‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬الشكر‭ ‬والحمد‮»‬،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬بالي‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحلم‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬عندي‭ ‬سيارة‭ ‬خاصة،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الشباب‭ ‬كان‭ ‬ركوب‭ ‬التاكسي‭ ‬‮«‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الباص‮»‬‭ ‬حلماً‭ ‬صعب‭ ‬المنال،‭ ‬وقضيت‭ ‬المرحلة‭ ‬الجامعية‭ ‬بثلاثة‭ ‬قمصان‭ ‬وبنطلونين‭ ‬كنت‭ ‬أتولى‭ ‬غسلهما‭ ‬وكيهما‭ ‬بنفسي،‭ ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬فإنني‭ ‬‮«‬كواء‮»‬‭ ‬محترف‭ ‬وكنت‭ ‬إذا‭ ‬اكتشفت‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬مساء‭ ‬أن‭ ‬الزي‭ ‬المدرسي‭ ‬لولدي‭ ‬أو‭ ‬بنتي‭ ‬بحاجة‭ ‬للكي،‭ ‬أقوم‭ ‬بلا‭ ‬تردد‭ ‬بتناول‭ ‬المكواة‭ (‬منشان‭ ‬خاطركم‭ ‬الأوتي‭!!) ‬وأجهز‭ ‬له‭ ‬الملابس‭ ‬المدرسية‭ ‬في‭ ‬أفضل‭ ‬حال‭..  ‬كافحت‭ ‬وأنا‭ ‬النوبي‭ ‬الأعجمي‭ ‬حتى‭ ‬تعلمت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وكتبت‭ ‬بها‭ ‬قصائد‭ ‬‮«‬قمة‭ ‬في‭ ‬الركاكة‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬وبالعناد‭ ‬والمثابرة‭ ‬هأنذا‭ ‬أكتب‭ ‬مقالاً‭ ‬يومياً‭ ‬بالعربية‭ ‬في‭ ‬الصحيفة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬البحرين‭.‬

كنت‭ ‬أفرح‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر‭ ‬كلما‭ ‬رأيت‭ ‬اسمي‭ ‬مكتوباً‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬أو‭ ‬كلما‭ ‬استوقفني‭ ‬شخص‭ ‬وسألني‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬الجعافر‮»‬،‭ ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أترك‭ ‬تلك‭ ‬الأمور‭ ‬‮«‬تطلع‭ ‬في‭ ‬رأسي‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬أذكر‭ ‬نفسي‭: ‬رحم‭ ‬الله‭ ‬أمرؤا‭ ‬عرف‭ ‬قدر‭ ‬نفسه‭. ‬ومن‭ ‬نسي‭ ‬قديمه‭ ‬تاه،‭ ‬واللي‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬تالي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لن‭ ‬أنسى‭ ‬الحمارسيدس‭ ‬أبو‭ ‬أربعة‭ ‬حوافر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عشت‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬المرسيدس‭ ‬ذي‭ ‬الدفع‭ ‬الرباعي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا