أسعد دوراكوفيتش (1948) أكاديميّ بوسنويّ يُعد في صدارة المتخصصين في الدراسات الشرقيّة. عمل في قسم الاستشراق في جامعة بريشتنا ومعهد الدراسات الشرقيّة في سراييفو وقسم الدراسات الشرقيّة في جامعة سراييفو(1975_2017). وشارك في مؤتمرات إقليميّة ودولية، وتميّز بترجماته الرائدة من العربيّة إلى البوسنوية ومنها (المعلقات، والقرآن الكريم، وألف ليلة وليلة وغيرها من الترجمات)، كما تميّز بدراساته المعمّقة في الأدب العربيّ التي تُرجِمَتْ إلى الإنكَليزية والعربيّة «نظرية الإبداع المهجرية في النقد الأدبيّ» (1989)، و«دراسات في أدب البوسنة والهرسك والأدب العربيّ» (2010. فاز دوراكوفيتش عن مجمل أعماله في خدمة الثقافة العربيّة بجوائز دوليّة مثل جائزة الشارقة للثقافة العربيّة/ اليونسكو(2005)، وهو عضو أكاديميّة العلوم والفنون في البوسنة والهرسك وعضو في مجامع اللغة العربيّة في مصر وسوريا والأردن.
في كتابه «من الاستشراق إلى علم الشرق» ((Orientology يجترح دوراكوفيتش مصطلحًا جديدًا هو «علم الشرق»، ناقضًا بذلك دراسات إدوارد سعيد عن الاستشراق. لقد انطلق سعيد من مفهوم «الخطاب» في التاريخانيّة الجديدة وخاصة في أدبيات المفكر والفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو للبحث عن آليات السلطة والسيطرة والمعرفة والتمثيل والقوة والتلاعب التحكميّ فيها. لقد بحث سعيد نظام التمثيلات الغربيّة الذي أنشأه الاستشراق الغربيّ، وهو يفكّك الشرق ويخلق منه كيانًا متخيّلاً صادرًا عن علاقات التسلط الغربيّة الإمبراطورية الكبرى. ويرفض دوراكوفيتش مصطلحي «الاستشراق» و«الدراسات الشرقيّة» ويرى أنّهما مصطلحان ملوّثان إيديولوجيًا، ولذلك اجترح دوراكوفيتش مصطلحًا جديدًا هو «علم الشرق» Orientology. ويعني به العلم الذي يتبع نهجًا علميًا ذا طبيعة متأصِّلة. يقول دوراكوفيتش «ولابدَّ أن أشير إلى أنّني باستعمالي المصطلح الجديد orientology (علم الشرق) أنأى بنفسي بقوة عن استخدام مصطلحي الاستشراق (orientalism) أو الدراسات الشرقيّة oriental) studies)، فباستعمال علم الشرق، أود أن أصير إلى نهج علميّ، لامركزيّ أوروبيّ في مقاربة هذا الحقل من البحث، إضافة إلى الطبيعة المتأصِّلة للتحليل وأحكام القيمة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقارئ النبيه أيضًا رغم كونه مشدوهًا أن يكتشف عددًا من الدلالات أو المضامين الأخرى في مصطلح علم الشرق_بما في ذلك وجود تواصل معين مع أعمال إدوارد سعيد وجاك دريدا».
لم يحفل دوراكوفيتش بالتحقيب التاريخيّ الخاص بعصور الأدب العربيّ، وهو التحقيب الذي نشأ في أوروبا مع بعض المستشرقين وخاصة الفرنسيين وسيادة نظرية (العرق، الجنس، البيئة)؛ فقد استنطق دوراكوفيتش الأدب العربيّ القديم في نصوصه استنطاقًا فنيًا جماليًا بدأ فيه من الداخل(الخاص) ليصلَ إلى الخارج(العام)، وهكذا تحدّث في كتابه «من الاستشراق إلى علم الشرق» عن قضايا كبرى مثل شعرية الأرابيسك، والشعرية الاستدلاليّة للقرآن، وشعرية المسافة في التشبيه في الشعر العربيّ القديم، والمجاز القرآنيّ، العالم من الداخل، ونضوج الشعرية مابعد القرآنيّة والتراث الأدبيّ. كما حلّل دوراكوفيتش نصوص الأدب العربيّ القديم بمنظار الشعرية (Poeticism) والأرابسك، والموتيفات، والثيمات، والإلهام الشعريّ، والسَّردية والتناص، والأسلوبيّة، والفضاء النصيّ مع إجراء مقارنات بين الأدبين العربيّ والغربيّ وصل من خلالها إلى نتائج بالغة الجدة والطرافة. لقد وصف الدكتور صلاح جرّار في تقديمه الكتاب بأنّه «أشبه بحركة تصحيحية في حقل الدراسات الأدبيّة العربيّة؛ إذ قام على تصحيح قدر من المصطلحات والمفاهيم والأحكام التي انتشرتْ طويلاً عن الأدب العربيّ، بشعره ونثره وعن القرآن الكريم وصلته بالأدب العربيّ».
لقد استنتج دوراكوفيتش من خلال اشتغالاته العميقة في نصوص الأدب العربيّ القديم أنَّ (الأدب الجاهليّ) (أدب قبل الإسلام) كان هو الأدب الذي شكّل عصور الأدب العربيّ اللاحقة وأسّسها فنيًا وثقافيًا بطريقة مشابهة لكيفية تأثير الأدب اليونانيّ القديم على ما أصبح يُعرف باسم الآداب الأوروبيّة. ويعد دوراكوفيتش الأدب العربيّ القديم منظومة مترابطة بشكل ملحوظ، أيّ أنَّه يمتلك تفرده الخاص به، وهذا هو المنطلق الطبيعيّ لقراءته. كما أنَّه يعزو سيادة المفاهيم التقليدية حول الطبيعة المادية للشعر العربيّ القديم إلى الإخفاقات في فهم المبادئ الجماليّة لهذا التراث. إنَّ أسعد دوراكوفيتش في كتابه «من الاستشراق إلى علم الشرق» يقدم لنا مقاربة عميقة وأصيلة بحثيًا في ابتعادها عن كثير من المسلمات والأحكام والنتائج الجاهزة التي ألصقها بعض الباحثين ظلمًا بالأدب العربيّ القديم. لقد استطاع دوراكوفيتش استنطاق جمالية هذا الأدب وعمق تأثيره في العصور اللاحقة. صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب بترجمة عدنان حسن عن مؤسسة جائزة عبدالعزيز البابطين للإبداع الشعريّ، بمناسبة الدورة الثالثة عشرة في سراييفو عام 2010.
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك