اتساع الإبداع وحدود الشغف النابض في مهرجان الصواري للمسرحيات القصيرة للشباب جعلنا ننصت مشدوهين إلى صوت الخشبة وهو يبارك صعود طاقات شبابية مسرحية نحو الضوء في أربعة عروض مميزة على مستوى التمثيل والإخراج والسينوغرافيا؛ كنتاج لورش عمل صيفية صوارية مكثفة سعت إلى اكتشاف، تطوير، وجوهرة مواهب مسرحية لشباب يؤمن برسالة المسرح في الفترة الممتدة من يوليو حتى سبتمبر2023، وذلك على يد أساتذة مخضرمين كالفنان إبراهيم خلفان، خالد الرويعي، ومحمد الصفار.
وكان الحصاد سخياً بالحب والجنون المسرحي المتقن فعلى مدار أربعة أيام (6-9 سبتمبر 2023) احتضنت الصالة الثقافية العروض الشبابية القصيرة وهي: «البلياتشو» للمخرجة نور حميد، «مرزوق» للمخرج علي أبو ديب، «مونوبولي» للمخرج علي عادل، و«أوراق» للمخرجة زينب علي عاشور.
البلياتشو
بكامل الوله لاكتشاف ما للعالم الخارجي من خوابي يهبط المهرجون من عزلتهم الصحراوية نحو الجمهور فيلتحم السيرك مع الواقع لتتعرى الحياة أمام مسارات بؤس خلقت باسم السياسة والدين وأعراف المجتمع. فتتضح معانٍ تجسد سياسة القطيع في أعمق تجلياتها في سياق يبرهن أن البقاء للأقوى في زمن يتقن التوحش ولا يفي البشر فيه بنذور إنسانيتهم.
وفراراً من مرارة الحقيقة نراهم يحاولون معاودة أدراجهم مجدداً صوب السيرك حيث الخشبة ولكن بعد فوات الأوان؛ فقسوة الواقع اقتحمته إلى حد التماهي وسلبت شهية العيش من مهرج مضطرب بالخوف خلص إلى أن العالم غير صالح للحياة.
مخرجة العمل نور حميد خلقت مشهدية إبداعية مميزة بتوظيف مؤثرات صوتية وضوئية تتواشج مع الحالات الشعورية المُجسدة لليأس والأمل؛ بالاتكاء على أساليب إخراجية متنوعة كان أهمها تقنية المفكر والمسرحي الألماني (بريخت) في هدم الجدار الرابع القائم على إشراك الجمهور في الحدث المسرحي «فقد جمعت كل الخطوط المسرحية وقدمت شيئاً من روحي يعكس اهتماماتي. وفي بداية العرض كسرنا الجدار بقيام إحدى الممثلات الاستعراضيات برش الزينة على الجمهور، كما جعلت أربعة مهرجين يجلسون بينه ثم ينطلقون نحو السيرك باعتبارهم ممثلين للعالم الحقيقي والقبح القادم من أرجائه».
وأفادت حميد أنها سعت في العمل إلى صناعة «فرجة ممتعة للجمهور تنفيذاً لتوصيات الأستاذين محمد الصفار وإبراهيم خلفان اللذين آمنا بي وفريقي وشددا على أهمية تقديم عرض رائع، فآمنت بدوري بالممثلين الذين كان بعضهم يمثل لأول مرة في حياته، فحاولت توظيف إمكانياتهم بالشكل الأمثل، فنجحوا في التحدي ولم يقصروا بأداء الرسالة المسرحية التي نريد».
عرض «البلياتشو» المتمحور حول خروج اثنين من ضمن خمسة مهرجين منعزلين في الصحراء نحو العالم الخارجي، هو مقتبس من مسرحية تحمل ذات العنوان للمؤلف بيتر مراد، أخرجتها نور حميد بشكل مميز، بمساعدة إخراجية من حمد المرباطي، وتمثيل كل من: محمد عبدالرسول، أحمد آل مبارك، أحمد الماجد، أحمد السيد، أنوار مدن، نايف السعدي، إسماعيل الدوسري، نبيل سيف، فواز فيصل. فيما ضم فريق السينوغرافيا كلاً من أميرة صليل، محمود العبيدات، ونور جعفر.
مرزوق
يتلوى في طوفان أفكاره الموغلة في الألم، متخبطاً في عتمة ذكرياته المكتظة بالفقدان. وعلى الخشبة تسير أشباح لواعجه في نومها؛ فالحياة لم تكتف بنهش جسده بمرض ميؤوس من شفائه بل سلبته وظيفته، و(سلمى) تلك الصبية التي يحب؛ فيؤول مصيره إلى الموت على يد هواجس الذاكرة.
ويظهر (مرزوق) مطوقاً بحبال متشابكة تنم عن ذكريات تبقيه رهن اضطرابها، فيما تتولى الحبول المتدلية من سقف المسرح الدلالة على القيود والآلام الأخرى التي يكابدها؛ فحيناً نرى سلمى تحاوره وتبث اعتذارها لتخليها عنه، وحيناً آخر يخرج المدير لإيلامه بسوء المعاملة وطرده من العمل؛ فيبقى بطلنا حبيس صراعات داخلية قاسية وأفكار لا ترحم تلف في نهاية الأمر حبل المشنقة حول رقبته.
مخرج العمل علي أبو ديب، أشار إلى أن رؤيته الإخراجية اعتمدت على «استثمار أدوات لها رمزية عميقة توضح منعطفات الحياة البائسة لمرزوق من مرض وفقدان للحبيبة ومصدر الرزق. وتتمثل تلك الأدوات في الحبال، الكرسي، الطاولة، الملف، والأوراق المبعثرة. ناهيك عن المؤثرات الضوئية والموسيقية التي عززت إبراز معاناة البطل في أكثر من شكل يُظهر الألم والحزن وحالات شعورية مقترنة بالكآبة والاختناق في تجربة أربط نجاحها بإبداع فريق عملي الرائع، وتشجيع الأساتذة الذين دعموني وأخص بالذكر والشكر الأستاذ إبراهيم خلفان».
والعمل من تأليف أحمد كامل شنان، وإخراج علي أبوديب، وتمثيل كل من معتز الديب، وطارق محمود شناعة، زهراء الحمران. وموسيقى حسين المؤمن، وسينوغرافيا كل من نور جعفر وأميرة صليل.
مونوبولي
على ناصية الخشبة ثمة مصابيح ينتهي ضياؤها إلى قسمات وجوه المؤدين الخمسة ناحتاً من ظلال العتمة عبارات غامضة مكثفة المعنى تنحدر تباعاً من أصواتهم ضمن معالجة دقيقة التوجه للنص المسرحي تتطابق مع الفعل الدرامي الفكاهي المنطوي على أحداث لجنة مهمتها استملاك الأراضي الخاصة للمنفعة العامة وتعويضها بأراض أخرى.
واختزن العرض رسائل تنقل حقائق ترتطم بواقع مضطرب تعايشه الشعوب في خضم أزمات معيشية وتبعات لصراعات سياسية تتحكم بمصائر الأمم عبر النفوذ والهيمنة الاقتصادية.
مخرج العمل علي عادل اعتمد في رؤيته الإخراجية للعرض المسرحي على الدمج بين لعبتي المونوبولي والبتة كبناء لسينوغرافيا المكان مع استخدام التغريب في العملية الإخراجية وإدخال الحالة الغنائية في المسرحية.
وبشأن فكرة مسرحية مونوبولي يشير عادل إلى أنها: «معدة عن نص يحيا الاقتصاد لماكس رينيه، وهو من النصوص الفكاهية ذات العمق الكبير؛ إذ يتناول القضايا بأسلوب هزلي ويلامس المشاكل بشكل مختلف».
ويوضح مشيداً: «تعاملت مع ممثلين رائعين فوق خشبة المسرح؛ فقد استطاعوا تقديم هذه القضايا بشكل مميز؛ عبر تجسيد إبداعي ناجح لخمس شخصيات يتكون منها العمل وهي رئيس اللجنة المتلاعب به من قبل الخادم وبعض الأعضاء في لجنة تضم من يمثل دور التجار، الطبقة الكادحة، رجال الدين، والخادم الموارب بوصفه انعكاساً لسياسات دول الغرب وتدخلاتها في البلدان الفقيرة».
وجاء العرض «مونوبولي» عن مسرحية يحيا الاقتصاد من تأليف ماكس رينيه، وإخراج علي عادل عمران، مساعد إخراج حسن الفرساني، تمثيل كل من بدر آل محمود، علي اريان، محمود الشيخ، أحمد محفوظ، ومجد العرادي. وسينوغرافيا فاطمة منصور.
أوراق
يجرجر الحلم من وهنه ويهيم على قلبه في الاغتراب؛ هو يدري أن الأوطان الممتدة بالخراب لا محل لها من الأحضان فطريق الهجرة يفتح مصاريع الألم والأمل على حد سواء أمام خطاه. ومتى ما كان يحمل على عاتقه أوزار أزمات وحروب لم يرتكبها سيجد في أوراق الهوية وحقيبة حياته ملاذاً للفرار والتخفف من النيران سعياً للعيش بسلام. هو المهاجر الذي نفض الصمت عن معاناته ففاضت شكواه في فضاء الخشبة أمام محقق يعنفه لتخليه عن وطنه بالرحيل لكن الأخير في واقع الأمر يضمر الرغبة في الإقدام على ذات الخطوة لكنه لا يستطيع؛ فهو اختار طريقاً آخر.
مخرجة العمل زينب عاشور، اعتمدت في بنائها لسينوغرافيا المكان الخاص بالعرض على حقائب تمثل أصحابها مربوطة بحبال ملونة نحو الأعلى «فتلك الحبال الحمراء للحقائب الموجودة على يمين المسرح تمثل الناس الذين يرغبوا بالهجرة ولكنهم لم ينجحوا إلى الآن، أما تلك الحبال الخضراء للحقائب الموجودة على يساره فتمثل الفئة التي نجحت في ذلك أو توشك على النجاح».
وبشأن فكرة العمل أوضحت عاشور «أنها تفكك وتتناول أبعاد متداخلة لقضية الهجرة ليس فقط من جهة الأسباب ولكن من جهة المشاعر المتناقضة للذين قرروا الهجرة وأقدموا على ارتكابها، والذين ينظرون إليهم بعيني الحسد والحنق لإفلاتهم من الوضع المتأزم في بلدانهم».
وأشادت بإبداع الممثلين التجسيديين في العرض مؤكدة أن اختيارهما جاء وفقاً لمعايير معينة «فقد أسندت دور المحقق للممثل علي الفردان؛ لأن صفاته الجسمانية مناسبة لعكس فكرة القوة والهيمنة؛ كونه أطول وأضخم من المهاجر. كما قمت بإسناد دور المهاجر للممثل كامل البوسعيدي حيث يمثل المهاجرين من مختلف البلدان؛ لتمتعه بأداء حركي وتعابير وجه وجسد قوية مكنته من تقمص الشخصية من ناحية التلون والحركة على المسرح، والقدرة على كسب تعاطف الجمهور».
والمسرحية «أوراق» من تأليف عبدالكريم العامري، وإخراج وسينوغرافيا زينب علي عاشور، مساعدة إخراج فائزة الشيخ. ومن تمثيل كل من علي الفردان وكامل البوسعيدي. وموسيقى حسن شمس.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك