إنَّ المعرفة شيء «يُنتج» أكثر من أنها شيء «يُكتشف»، وانطلاقًا من هذه القاعدة مثّلت الترجمة ولا تزال تمثّلُ آلياتٍ أساسية لإنتاج المعرفة الإنسانيّة في حقولها الكبرى، بما في ذلك إعادة صياغة الفكر البشري. وعلى الرغم من هذه الأهمية الكبرى التي تتبوأها الترجمة في إنتاج الثقافة والمعرفة إلا أنَّ الدراسات التي حاولت استنطاق هذا الأمر لا تزال في حكم القلة الاستثنائيّة والنادرة، خاصةً في مجال دراسات الترجمة، وفي مجال الدراسات الثقافيّة وتواريخ الأفكار. لقد كانت منى بيكر أول من انتقل بنظرية السرد من العلوم الاجتماعية البحتة إلى دراسات الترجمة، في كتابها التأسيسي: «الترجمة والصراع، تفسير سردي» Translation and Conflict: A Narrative Account.
وتناولت بيكر في أطروحتها تفسير سلوك المترجمين بوصفهم فاعلين اجتماعيين تنطبق عليهم نظريات علم الاجتماع. وبالتالي ترى بيكر في السرد قدرة على معالجة النصوص المترجمة، والسَّرديات الكامنة وراء ترجمة هذه النصوص، لما في النظرية من مدى يمكن الباحث من النظر في سياق النص الأوسع الذي يؤثِّر فيه النص المترجم ويتأثر به.
للسَّرديات دور كبير في عملية النقل والترجمة من خلال قدرتها على التأثير في المترجم أو الوسيط الذي قد يلجأ إلى عناصر إضافية خارجية لتأطير النص المنقول وتوجيه عملية تلقيه إلى وجهات معينة. وهناك أربعة أنواع من السَّرديات، هي الشخصية، والجماعية، والمفاهيميّة، والسَّرديات الكبرى. فالسَّرديات الشخصية هي الحكايات التي يتبناها الأفراد عن أنفسهم من أجل إيجاد مكان لهم في هذا العالم.
والسرديات الشخصية، تعيد سرد تجارب المرء التي كانت في مكان ما لإعادة سردها في مكان آخر وبلغة أخرى.
أمَا السَّرديات الجماعية فهي السَّرديات المرتبطة بالتشكيلات الثقافيّة والمؤسسيّة.
وفي مجال الترجمة تلعب هذه المؤسسات دورًا كبيرًا في ضبط عمليات الترجمة، وربّما قولبتها في كثير من الأحيان بقوالب ذهنية معينة، منها على سبيل المثال ما أوضحه إدوارد سعيد في مقاله الأدب المحظور فمن الأعمال الروائية العربيّة، أو غيرها ما تُرجم من العربيّة إلى الإنجليزية ليس لأسباب فنية أو إبداعيّة بقدر ما كانت الترجمة لأسباب تتعلق بالسَّرديات الجماعيّة الغربية الخاصة بالصورة الذهنية النمطية عن العالم العربي، وعن الإسلام.
والنمط الثالث من الترجمة هو السَّرديات المفاهيميّة، وهي حكايات وتفسيرات يعتنقها الباحثون عن مادة بحثهم ويبثونها لغيرهم.
وتكمن قوة هذه الحكايات في قدرتها على تشييد المؤسسة والحفاظ على تماسكها، ومن ثمَّ قدرتها على التوجيه نحو الفعل.
ومن السَّرديات المفاهيميّة التي شاعت فترة طويلة من الزمن، أنَّ المترجمين أقل شأناً من المؤلفين، وأنَّ مهمة المترجم لا تنطوي على أيّ إبداع، وهو الأمر الذي قوّضته نظريات السَّرد المرتبطة بالترجمة، التي ترى أنَّ المترجمين هم أحد الفاعلين المهمين في عملية النقل.
أمّا النوع الرابع والأخير من السَّرديات فهي السَّرديات الكبرى وهي «السَّرديات المسيطرة» التي تهيمن على حياة البشر في العالم كله.
إنَّ الترجمات فعل انتقاء وثقافة ومعرفة، وقد تكون لدى المترجم رؤية فكرية ما، تدفعه إلى الانهماك في ترجمة مشروع إبداعي أو فكري ما، ومنها على سبيل المثال تخصص المترجم صالح علماني في ترجمة روايات من أدب أمريكا اللاتينية لكتاب معينين، واشتغال الأكاديمي والناقد كمال أبوديب بترجمة بعض كتب إدوارد سعيد، وهناك الكثير والكثير من الأمثلة الدالة. ومن جانب آخر أنتجت كلية الآداب بجامعة البحرين عبر عقود بعض المشاريع الاستثنائية في مجال الترجمة، كما اشتغل عدد كبير من المترجمين البحرينيين في مجال الترجمات الثقافية والإبداعية.
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبي الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك