منذ 952 عاما وقعت معركة غيّرت كثيراً في شكل وتركيبة الأناضول (الجزء الآسيوي في تركيا الحالية)، وكذلك في شكل وتركيبة الشعوب التي تعيش في مناطق شمال الشام من ناحية والبلقان من ناحية أخرى. ذلك أنّ معركة ملاذ كرد وقائدها المحنّك ألب أرسلان لم تكن هزيمةً عسكرية وسياسية فقط، وإنما هزيمة معنوية. ففيها أسر المسلمون الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع وبدأ انتشار الإسلام في منطقة الأناضول.
كانت القبائل والشعوب التركية في وسط وشرق آسيا قد بدأت منذ سنوات هجرتها إلى الأناضول. كانت الشعوب التركية شعوباً محاربة وقتالية، ولهذا بدأ استخدامهم في الوظائف العسكريّة، ومع مرور الوقت أصبح منهم قادة عسكريون كبار في بغداد وبقية الحواضر الإسلاميّة. كان الخليفة العباسي في ذلك الوقت ضعيفاً، لا يملك من أمر نفسه شيئاً، وكانت دولة بني بويه الفارسية تتحكّم في العاصمة بغداد وفي الخليفة الذي ليس له من لقب الخليفة سوى الاسم والتشريفات والبروتوكولات الرسمية فقط. في ذلك الوقت صعد شابٌ عسكريّ تركي اسمه طغرل بك، استطاع أن يوسِّع نفوذه العسكري والسياسي في الخلافة العباسية، وفي ظروفٍ سياسية معقدة استطاع أن يطيح بعرش آل بويه، ويصادق الخليفة الذي كان خائفاً من التمدد الفارسي في عاصمة الخلافة الإسلاميّة.
سيطر طغرل بك على مقاليد الخلافة والدولة العباسية كلها، ولكنّه حين توفَّى لم يكن له وريث، وهنا بدأت حروب ولاية العهد، التي استطاع شاب صغير اسمه ألب أرسلان (أي الأسد الشجاع) أن يحسمها لصالحه عام 1063، وكان عمره آنذاك 33 عاماً فقط. وبهذا حفظ الدولة السلجوقيّة التي كانت عاصمتها مدينة الريّ (في إيران حالياً) من التفكُّك، وكذلك حمى الدولة الإسلامية نفسها من التفكُّك باعتبارها دولة قائمة على هذا الوجود السلجوقي العسكري.
في ذلك الوقت كانت الدولة البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية (إسطنبول حالياً) في حالة صراع مع العالم الإسلامي وكان هذا معروفا منذ نشأ الإسلام وتوسَّع في الشام.
بعدما قضى ألب أرسلان على القلاقل الداخلية، قرر ضمّ حلب من الدولة الفاطمية واستطاع ضمّها عام 1071، ولكنّ هذا الضمّ الذي يقع على حدود الإمبراطورية البيزنطية أقلق الإمبراطور البيزنطي، الذي كان قائداً عسكرياً ماهراً. فماذا كانت أوضاع البيزنطيين في تلك الفترة؟ توفي الإمبراطور البيزنطي قسطنطين العاشر دوكاس عام 1067، وترك أرملته الإمبراطورة أيدوكيا مكرمبولتيسا لتدير الدولة. كان على الإمبراطورة أن تختار زوجاً لها، وفي تلك الأثناء كان هناك قائدٌ عسكريٌّ ماهر اسمه رومانوس ديوجينيس كان نجمه قد بدأ في السطوع، فتزوجته ليصبح إمبراطوراً.
بدأ رومانوس بترتيب وتنظيم الجيش البيزنطي المتداعي. فما إن دخل السلطان السلجوقيّ الشاب حلب بداية عام 1071 حتّى بدأ رومانوس بتجهيز جيوشه للتحرُّك والقضاء على التوغُّل السلجوقي ذاك. ولكن هل يمكنك القضاء على السلاجقة يا رومانوس؟ لم يسأل الإمبراطور نفسه هذا السؤال، فقد كان جيشه ضخماً للغاية، وتقدره المصادر الإسلامية بـ200 ألف مقاتل. ولا يبدو أنّ هذا الرقم صحيح، لكنّ الحقيقة التي لا يمكن التشكيك فيها أنّ السلطان السلجوقي لم يجمع أكثر من 20 ألف مقاتل، ويقال إنّه جمع 30 ألف مقاتل، وكانت جيوش البيزنطيين أكثر بكثير. أغرت أعداد البيزنطيين إمبراطورهم العسكريّ المحنّك. لكنّ السلطان ألب أرسلان أرسل يطلب منه التوصُّل إلى اتفاقٍ وحلٍّ سلميّ، رفض الإمبراطور وأخبره أنّ التفاوض سيكونُ في عاصمتك! كنايةً على أنّه لن يهزمه فقط، بل سيسيطر على عاصمته الريّ (في إيران حالياً).
زحف رومانوس إلى منطقة ملاذ كرد وسيطر عليها، وقسّم جيوشه عدّة جيوش، التحم ألب أرسلان مع أحدها وهزمه هزيمة نكراء. أراد أرسلان أن يستثمر هذا النصر وأرسل إلى الإمبراطور يخبره بطلبه الصلح، لكنّه رفض أيضاً معتمداً على كثرة بقية جيوشه، وفي يوم اللقاء الحاسم 26 أغسطس عام 1071، عندما كان الإمبراطور البيزنطيّ الشاب المحنّك ذو الـ41 عاماً يحشد جيوشه للقضاء على هذا «القلق التركي السلجوقي» الذي أقضّ مضاجعهم لسنين مضت، كان السلطان الشاب ألب أرسلان (41 عاماً) أيضاً يحشد جيشه الصغير ولكن بطريقةٍ مختلفة. ارتدى السلطان أرسلان رداءً أبيض، كنايةً عن الكفن، وخطب في جنوده أنّه سيطلب الشهادة، وأنّه ليس مفروضاً على أحدٍ منهم أن يتبعه في تلك المعركة، ومن أراد الانسحاب فلينسحب!
كانت هذه الخطبة الحماسية تخفي وراءها أيضاً تخطيطاً عسكرياً استثنائياً. فقد شكّل السلطان ألب أرسلان جيشه على شكل هلال. وترك للجيش البيزنطي فرصة الهجوم. هجم الجيش البيزنطي الضخم على وسط الجيش، وهنا انسحبت المقدمة، فظنّ البيزنطيون أنّهم يحققون نصراً. وهنا انطبقت ميمنة الجيش وميسرته على الجيش البيزنطي، فأحاطته كالكماشة.
وهنا قاد السلطان ألب أرسلان بنفسه هجوماً، واستطاع أن يأسر الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع. انتهت المعركة بهذه الهزيمة الضخمة، وكانت نتائجها التاريخية كبيرة للغاية. فمن ناحية كانت هذه المعركة بداية ثبات قدم الشعوب التركية في الأناضول، فقد أرغم ألب أرسلان الإمبراطور البيزنطي على التخلي عن بعض المناطق مثل أنطاكية والرها، وكذلك فقد نزل الإمبراطور البيزنطي على الشروط السياسية القاسية التي فرضها السلطان السلجوقي المنتصر.
ومن ناحيةٍ أخرى فقد زادت هيبة دولة السلاجقة في العالم الإسلامي. ومهدت لفتح القسطنطينية عام 1453.وكانت أحد أهمّ النتائج أنّ الإمبراطور البيزنطيّ الأسير حين عاد إلى القسطنطينية كان انقلابٌ قد حدث، للإطاحة به، فقد كانت فضيحة وقوعه في الأسر أكبر من أن يتقبلها البلاط. حاول الإمبراطور استعادة حكمه، لكنّه هُزم وسُمِلَت (فُقِأت) عيناه ونُفي إلى جزيرةٍ بعيدة ولم يلبث أن مات بعد المعركة بعامٍ واحد.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك