في عالم التجريب السردي ليس هناك أفق محدود للتشكل النصي، ففكرة التجريب قد توصل كاتبا لنسج عوالم لم يتخيلها، وأفكارًا وجملًا نسجت نفسها بين دهاليز النص، وذلك يحدث حينما يبدأ الكاتب في اللعب بعناصر الجنس الأدبي الذي يعمل على كتابته، ولعل الكاتب السعودي «حسين السنونة» أحد نماذج التجريب الذي أنتج نصوصًا تقود «الفكرة» فضاء النص السردي، وتجرّ عناصر «الحكاية» خلفها، لتنتزع منها شارة الصدارة.
في مجموعتيه القصصيتين (نساء قريتي لا يدخلن الجنة)، و(أقنعة من لحم) يحفر الكاتب السعودي (حسين السنونة) عددًا من القصص القصيرة التي يجمعها هذا الملمح السردي المميز: أن يبدأ التشكل النصي بفكرة غريبة تشبه الدوامة الصغيرة في بركة ماء هادئ، ثم سرعان ما تتسارع تلك الدوامة لتسحب إليها كلّ ما بتلك البركة فيدور كلّ شيء في فلكها حتى تتشكل صورة جديدة وربما غريبة وأحيانًا صادمة، فيتحول الماء لشيء آخر.
ليس من السهل أن تقوم بالتجريب من خلال اللعب في الأدوات، لكنك حين تمسك بأطراف اللعبة تنتج نصًا جميلًا؛ وهكذا فعل سنونة في العديد من نصوصه التي ضمتها المجموعتان، ولنأخذ مثالا من كل مجموعة، ففي قصة «أقنعة من لحم» وهي القصة التي تصدرت غلاف المجموعة نجد فكرة استيقاظ بطل القصة وهو يرى وجهه في صباح يوم ما في المرآة بوجه كلب! يصدم الرجل وهو رب أسرة وموظف بالبنك من منظر وجهه، وتبدأ الأسئلة المقلقة تدور بعقله: كيف سأخرج من غرفة نومي؟ وما ردة فعل زوجتي وأبنائي؟ كيف سأذهب لدوامي في البنك، وكيف سألتقي بالزبائن؟ كيف ستسمر حياتي وأنا بوجه كلب؟
لكنه يفاجأ بأنه الوحيد الذي يرى نفسه بتلك الهيئة الغريبة، فزوجته وأولاده يرونه بشكل طبيعي كما يرونه كلّ يوم، وهم يردون على تساؤلاته المبطنة بالقلق بالإطراء والمديح؛ وحتى حينما قصد البنك لم يجد من الزبائن أي ردّ فعل غير عادي، لكن أحد الزبائن أحيا الفكرة في عقله بقوله له: «شكرًا لأمانتك ووفائك، واسمح لي أن أؤكد لك أن وفاءك مثل وفاء كلب»، ورغم إن المتحدث يؤكد له إنه لا يجيد الكلام المنمق إلا أنه أعاده لمنظر وجهه في الصباح في مرآة الحمام بمنزله وهو في صورة كلب فأخذ يتحسس وجهه مرة أخرى.
وفي قصة (قهقهة في السماء) من مجموعة (نساء قريتي لا يدخلن الجنة) نجد حسين سنونة يوغل في التجريب المؤدي للتشكيل النصي، فالفكرة هنا في انفلات ضحكة من رجل ستيني يجلس في مقهى، يجعل جميع رواد المقهى يضحكون، وسرعان ما تنتشر الضحكة في الشارع المجاور ثم في أرجاء المدينة، ثم في المدن الأخرى، حتى تصل للرئيس الذي يظهر ضاحكًا في شرفة قصره. يُسأل الرجل الستيني عن سبب ضحكه التي صارت حديث القنوات الفضائية والناس فيقول: «صاحب المقهى قال لي: مساء الخير يا محترم. فشعرت إني مواطن عربي محترم».
تتحول اللوحات التي ينتجها قلم سنونة إلى أسئلة ففي قصة (ريال فلسطين. سمكة كبيرة) تتشظى اللوحة التي رسمها لطفل يدفع مصروفه المدرسي وهو ريال واحد للمدرس الفلسطيني الذي ينظم حملة لدعم قضية فلسطين، وهي القضية التي ولد ذلك الطفل وهي محفورة في قلبه كنقش فرعوني، لكنه يشعرُ بالجوع الشديد بعد أن ذهب الريال الذي يشتري به شوكولاتا (الباونتي) كلّ يوم، فيلجأ لشرب الماء ليسدّ جوعه، وعندما يعود للمنزل يقصّ ما جرى لأمه وهو يصرخ: جائع. جائع. جائع، ويطلب وجبة غدائه مبكرًا، فتمدح أمه تضحيته وتضع له سمكة كبيرة مكافأة له على تلك التضحية. أعجب الطفل بتلك المقايضة فسأل أمه: «ما رأيك بأن أقدم مصروفي كلّ يوم لفلسطين، وتعطيني مقابل ذلك سمكة كبيرة؟»، فردّت ووجهها يمتلئ بالأسى: «ولكن إلى متى ستدفع ريال فلسطين؟».
الواقع أن قصة ذلك الطفل تولد الكثير من الأسئلة حول الدعم العربي للقضية الفلسطينية، وعلاقة الفقراء بتلك القضية، وكيف إنه يضحون بما يملكون من أجل نصرة هذه القضية، لكن السؤال يبقى إلى متى؟.
يبقى أن نشير إلى أن تقنية تجريب التشكيل النصي أخذت بعدًا أعمق وأكبر في مجموعة (أقنعة من لحم)، فجميع نصوص هذه المجموعة هي عبارة عن أفكار تقود الحكاية، وتؤدي إلى نسج الصورة، فهناك فكرة مواطن يقرر ألا يتحرك في قصة: (ترانيم مواطن لا يتحرك) ليتحول لمشكلة عامة، وهناك فكرة مواطن لا يأتيه النوم ليلة واحدة في السنة في قصة (اشتاق للعناق فاستيقظ)، وغيرها من القصص.
{ كاتب بحريني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك