«الربيع يفد على البيت الكبير، أشجار اللوز تنفض أوراقها الحمراء استعدادا لموسم صيف جديد، والطلع يشق صدور النخيل، وأريج ورد المساء برائحته المتميزة يغطي كل مساحات البيت الكبير» ما إن فتحت الصفحة الأولى من كتاب (البيت الكبير) حتى وجدت نفسي فردا من عائلة البيت الكبير، أعيش معهم أشاركهم زادهم... أفراحهم... أحزانهم أعرفهم فردا فردا، أجلس معهم في الليوان أصغي إلى أحاديثهم وذكرياتهم الشجية... أخرج من بوابة البيت الكبيرة أجوب الشوارع والأسواق والمقاهي والحارات، أمشي على رمال سواحل الجزيرة وأعود إليه يدفعني الشوق لدفئه وطيبة أهله وشعوري أني فرد منهم.
لعل ما يميز أي عمل فني هو ما يتركه في النفس من أثر، فقد تميز هذا الكتاب بمزجه ما بين الرواية والحدث التاريخي المعاش، فهما منسجمان معا ليبرز كل منهما الآخر. حيث لا يسيطر الجانب الروائي على الجانب التاريخي، بل ينبثقان من صميم الواقع المعاش وهما ليس بمعزل عن واقع الناس والحياة. أما قيمته الفنية والتاريخية فهي في طرحه لتلك الأسئلة العميقة الصعبة الشائكة من رحم الواقع لتفتح آفاقا من التفكّر والتمعن فيما حدث واستشرافا لما سيحدث في قادم الأيام.
هل نستطيع أن نوقف مجرى الأحداث؟
وهل نستطيع أن نفصل بين الواقع والمتخيل؟
تبدأ الحكاية عندما قدمت امرأة غريبة إلى البيت الكبير، تنشد الأشعار كل صباح.
حطّوا لك ريشة صقر لو حباره محنا عبيدٍ لك ولا احنا مواليك
هل كانت المرأة الغريبة تتنبأ في هذا القصيدة بانهيار الدولة العظمى؟ وما جدوى قصيدة تكتب وتقرأ في حرص وتكتم شديد؟ وقصيدة المرأة الغريبة يسمعها ويحفظها الكثير من الناس ولكنها عاشت وماتت غريبة حتى قصائدها لم تجد من يعتني بجمعها. أوحين تسأل أحد المبشرين «هم يصلّون على نبيهم بمناسبة وغير مناسبة، نركب العبرة إلى المحرق من المنامة أو العكس لا ينشرون الشراع ولا تعمل المجاديف قبل أن يصلوا على النبي» أم حيرة إحدى القابلات حين ذهبت إلى المستشفى وأخذت الدواء ولا بد من أخذ كتابهم، وقالت: فماذا أفعل به؟ أو الساعة المكسورة، التي بسبها تحوّلت الساحة إلى نزاع أدى إلى قتال، لماذا أدّت هذه الساعة إلى قيام الساعة؟ ما قضية القبائل؟ وعرائض التذمر والاحتجاج؟ لماذا لم يسارع من بيده الأمر في إخماد الفتنة؟ تم العزل، ولكن هل في البلد رجال؟ مجلس أهل العقد والحل وأغلبه من التجار ونواخذة السفن وما يسمى بالطواويش كانوا هم يمثلون الأمة لماذا أخفوا عن الحاكم مظالم الغوص، وما يعانيه رجال الغوص على أيديهم وما يكابدونه من ظلم وإجرام؟ عندما جاء أمين الريحاني إلى البحرين أدهشته قصورها وأسواقها ومدرسة الهداية ومدرسيها ورجالات البحرين وأرائهم التحررية، وقابل النواخذة والطواويش ولكنه لماذا لم يقابل الغاصة والسيوب؟ ولماذا لم يتوقف لدى (سالفة الغوص)؟ وشباب النهضة الفكرية والاجتماعية والذين يمثلون الحركة الوطنية لماذا لم يحاولوا حتى مجرد محاولة إثبات الوجود ولم يحاولوا النزول إلى الشارع؟ انتفاضة رجال الغوص المتكررة وتلك الشكوى المستمرة لماذا لم تجد لها صدى في أذهانهم؟ وكأن ما يحدث في البلاد أشياء لا تعنيهم. لماذا لم يتوقفوا لدى هذه القوانين البائسة المجحفة؟ لقد هدمت دور البحارة وتفرّق الغاصة، من يملك حق الرفض؟
ولكن هذه الجزيرة ولادة لتأتي تلك المرأة الجسور التي قالت للواقع المر(لا) عندما طلب النواخذة ابنها لدخول الغوص بدلا عن أبيه، فقالت بتحد «ترى جوف ملفعي وغترتك واحد» وباعت (صباحتها) ودفعت مبلغ الدين، ولكن النواخذة طالبها بالفائدة فردت عليه أنها لا تتعامل بالربا وأقسمت بأنها سترفع قضيتها للشرع وإذا لم ينصفنها فستذهب إلى (ديكسون) وعندما سخر منها وقال لها إنه لن ينظر في قضيتها قالت كلمتها الفاصلة «في القوع جوف من أطول نسم» ذهب البحر بالآباء فهل سيذهب بالأبناء؟ وكان الرد من تلك المرأة الشابة التي اقتحمت قهوة النواخذة في وسط سوق المحرق وصرخت بهم أن يتقوا الله في أطفال المسلمين في أي شرع يدفع الطفل ديون أبيه؟ ولكن يلا المفارقة! (ديلي) الإنجليزي الذي اشتهر بحدّته، هذا الرجل القلق الغاضب الذي ظل دونما صديق ودونما رفيق كيف استطاع بجرة قلم أن يضع حدا لجراحات ومعاناة لا حدود لها؟ كل الذين يهاجمونه بسبب قطعه للنخيل والأشجار لشق الطرق وتعبيدها ويؤكدون أن ما قام به يعد حراما في الإسلام. ما هو رأيهم في الربا وديون الغوص هل هذا من الإسلام؟ فهل كتب على أمة محمد أن يأتيهم رجل نصراني ليحرّم عليهم التعامل بالربا وهو محرّم في كتابهم؟ كان شعب البحرين يكره ديلي إلا أنه شعر في الأخير أن هذا الرجل قدم إليه الكثير، لقد دخل (ديلي) جنة الأطفال حينما وضع يده على العوق.
أثناء قراتي لكتاب البيت الكبير، كنت أسال نفسي لماذا لم أسمع عن هذا الكتاب حين صدوره في عام 2007م وقد سمعت عنه بالصدفة في عام 2023م وأتساءل في حيرة لماذا تترك هذه الكتب المهمة عرضة للإهمال وعدم الاهتمام، بعد رحيلك من سيكتب الجزء الثاني والثالث من تاريخ البيت الكبير بهذه السلاسة والبساطة والصدق والإثارة كما كُتب جزؤه الأول؟ لا أحد يستطيع أن يتحدّى الموت؟ لقد رحلت عنا وتركت لنا بصمتها وأيامنا التي تتساقط، وبين المد والجزر، وعلى رمال سواحل الجزيرة كُتب بخط عريض واضح لا تجرفه الأمواج بل تزيده وضوحا من هنا مرّت نورة الشيراوي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك