برزت الأفلام السينمائية الإسبانية في السنوات الأخيرة لتشكل علامة مميزة في المكتبة السينمائية الأوروبية ، ليس على مستوى الكم فقط بل ودعم الدولة لهذا المجال والحصول على الجوائز العالمية وإنتاج الأفلام بجودة عالية فضلاً عن الابتكار والإبداع في القصص والأداء الواقعي المميز، وهو ما يمكن أن يتوضح من خلال آخر الأفلام المثيرة التي قدمتها إسبانيا ضمن نتاجات 2023 وعرض قبل أيام ألا وهو فيلم (حاوية في عرض البحر Nowhere) وهو من تأليف أرنست رييرا وإخراج ألبيرت بينتو، وتمثيل آنا كاستيلو بدور (ميا) وزوجها الممثل تامار نوفاس بدور(نيكو) إذ يظهر الفيلم هروب هذه المرأة وزوجها من بلد استبدادي تقوم الحكومة في هذا البلد (بقتل كبار السن / والنساء الحوامل والأطفال) بسبب ( ندرة الموارد) وهذا ما يظهر في المشاهد الأولى للفيلم بصورة حوارية عابرة ، وفكرة (تقليص السكان/ بسبب ندرة الموارد) ترجع إلى عدة طروحات ونظريات بخاصة في ظل الأزمات ومنها نظرية (المليار الذهبي) وكذلك كارثة مالتوس، كارثة مالتوسية والتي تمثل نظرية ترى أن النمو السكاني سيتجاوز الإنتاج الزراعي أي إنه لن يكون هنالك في المستقبل ما يكفي من الطعام لإمداد البشر، فهو يؤكد أن رذائل البشر هي التي ستسهم في فناء البشرية، كما سترد مواسم من الأوبئة والطاعون والأمراض وتحصد الآلاف من الضحايا، كان ذلك عام 1789، وذات الأمر طرح عبر وثيقة كيسنجر 1974 لآثار النمو السكاني في جميع أنحاء العالم على الأمن الأمريكي والمصالح الخارجية وتمثل رسم خطة لتقليل عدد السكان للحفاظ على المواد الخام والموارد المهمة في البلدان، ناهيك عن نظريات المؤامرة التي تفعل خلال الأزمات الاستثنائية في البلدان وأيضا فكرة البقاء للأصلح والغاية تبرر الوسيلة وغيرها من الأفكار التي تتطبق مع مفاهيم تقليص السكان، في هذا الفيلم تحاول امرأة وحيدة ومحاصرة داخل حاوية شحن تنجرف في عرض البحر النجاة بحياتها وطفلها (الذي ولدته خلال أيام طوفانها عرض البحر على ظهر الحاوية) إن الفيلم يتميز بكونه يحمل كما كبيرا من المشاعر الإنسانية جراء الصعوبات التي تواجهها (بطلة الفيلم) ولكن في الفيلم رسائل عدة أراد أن يكشفها المؤلف والمخرج معاً ، وأهمها أن العائلة الهاربة من هذا البلد بعد أن قتلت الحكومة ابنتهم (جراء ندرة الموارد) ومارست هذا القتل على عديد من العوائل (جراء نقص الموارد) فإن أولى الرسائل الدلالية التي تدحض فكرة نقص الموارد هو (تدبر المرأة لوضعها لأيام على ظهر حاوية طافية عرض البحر/ بموارد قليلة وبدائية وغير أساسية في الحياة) إلا أن المرأة استطاعت أن تتكيف مع هذه الموارد وأن تعيش من خلالها رغم الصعوبات التي لاقتها، إن المكانية المغلقة والمأزومة والطاردة (بحجمها الجغرافي) (وعتمتها/ المتمثلة بالحاوية) هي أماكن مغلقة سيكولوجياً لا يمكن العيش فيها على عكس بلدها الأم (الذي قسرها على الهجرة والهرب بهذه الحاوية الضيقة مكانياً ونفسياً) إلا أنها أكملت مسيرتها وعاشت من خلال (الحاوية) وليس الوطن الرحب، بغض النظر عن رمزية (الحاوية) إن محاولات المرأة البقاء على قيد الحياة هي الرسالة الإنسانية الثانية والأعظم التي يقدمها الفيلم من حيث تجسيد لأقسى صراعات الإنسان من أجل البقاء بأقل الموارد المتاحة وبأبشع صور المعاناة، وأقوى سبل الإرادة على البقاء، بل وولادة جديدة على ظهر هذه الحاوية (تتمثل بولادة طفلتها) والتي تحيل إلى صورة مناقضة عانتها هذه المرأة في (أرض بلدها الواسعة) (مقتل الحكومة لطفلتها الأولى/ جراء ندرة الموارد في بلدها الأم) إن الحاوية تحولت لأيقونة حياتية جديدة سيما مع كم الصور التي يقدمها المخرج في هذا الفيلم ومن حيث بنية السرد السينمائي دون أي استطالات أو أطنان في رسم المشاهد وبناء الصورة السينمائية والجملة الحوارية في الفيلم حتى وإن كان الفيلم على امتداده بطلته وممثلته واحدة (ميا) إلا أن التشويق والإثارة لم يغب ولا بمشهد واحد من هذا الفيلم عبر عدة وسائل يبتكرها المخرج (الموبايل/ الاسترجاع/ التخيل والحلمية/ مناجاة الذات أو مناجاة الطفلة) وهذه ميزة أخرى تضاف للفيلم (ممثلة واحدة/حيز جغرافي محدد وصغير) ولكن حضر التنوع الجمالي في أداء الشخصية الرئيسة التي تجبرك على التعاطف معها، وهذا التنويع يضيف عاملاً جمالياً إلى بناء المشهد في هذا الفيلم ناهيك عن الواقعية التي تغلب عليها (الجانب السيكولوجي) في كل شيء ابتداءً من القصة وصولاً إلى أداء الممثلة الرئيسة ومشاعرها التي تفرض عليك تعاطفاً من نوع خاص ، وكأنك تتعايش وتسكن معها في هذه الحاوية وتتمنى أي سبيل لإنقاذها من وسط هذه الحيرة الكبيرة التي وقعت فيها، والمصير المجهول وهي تكتب مرور (أيامها/ واحداً تلو الآخر) على جدار الحاوية وتصارع من أجل البقاء على قيد الحياة وسط كل هذه المعاناة (الجوع/ المصير المجهول/ غرق السفينة والحاوية عرض البحر/ فقدانها لابنتها الأولى ومن ثم زوجها وبقائها وحيدة / ولادتها وحدها وسط الحاوية عرض البحر/ إصابتها الجسدية/ وأخيراً نافذة الأمل التي فتحتها أعلى سقف الحاوية) ومن ثم مشهد النجاة الأخير ومكالمتها الوداعية مع زوجها وتسمية طفلتها المولودة داخل الحاوية (نوا) بمعنى (نوح) وكأن المؤلف يستعير تشبيهاً دينياً عن رحلة الطوفان المثيرة لنبي الله نوح والوصول أخيراً إلى ضفة الأمان بعد أن قدمت المرأة كل ما يمكن تقديمه للبقاء على قيد الحياة وبداية حياة جديدة مع طفلتها الجديدة، إن هذا الفيلم من الأفلام المميزة والذي يثبت علو كعب السينما الإسبانية في السنوات الأخيرة.
{ كاتب وناقد عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك