تشتغل الروائيّة البيلاروسيّة سفيتلانا أليكسييفيتش الحائزة جائزة نوبل في الآداب عام 2015 على كتابة روائيّة أرشيفية وسرديات توثيقيّة تُعنى بالتفاصيل الصغيرة المهمة لملايين البشر حول العالم من الذين عانوا ويلات الحروب الكبرى ودمارها.. أولئك البشر الذين وثَّقوا في ذاكرتهم لحظاتهم الأخيرة مع أحبائهم قبل أن يفقدوهم ويودعوهم الوداع الأخير. وكتابة أليكسييفيتش تحتفي بهؤلاء «الشهود» على الحروب التاريخيّة المفصليّة الكبرى التي غيّرت وجه البشرية ومساراتها (الحرب العالمية الثانية وما تلاها)، ورواياتها تنشئ كتابة سردية جديدة يُقدم فيها الحدث التاريخيّ المفصليّ من خلال تقنية أصوات متعددة قائمة على التداخل؛ ولذلك فإنَّ حبكتها السردية مغايرة في ذلك «التبئير» المتعدِّد الأصوات.
تمثِّل البيريسترويكا_ إعادة بناء الاقتصاد السوفييتي في عهد ميخائيل غورباتشوف_في رواية أليكسييفيتش «زمن مستعمل، نهاية الإنسان الأحمر» محاكمة سردية استعادية لأزمنة الحروب المفصلية الكبرى وهوامش النهايات؛ ويؤشّر عنوان الرواية الفرعي «نهاية الإنسان الأحمر» إلى تلك النهاية الكبرى لحقبة الاتحاد السوفييتي (1922 - 1991). وتستنطق هذه الرواية عشرات الشهود الذين كانوا شهودًا للحظة تاريخيّة مفصلية هي انهيار الاتحاد السوفييتي. إنَّ كتابة أليكسييفيتش السَّردية هي كتابة مغايرة؛ فهذه الروائية تبتعد عن التخييل التاريخي وتستبدله بالكولاج التوثيقي. وفي هذه الرواية سنستمع إلى تداخل أصوات متعددة لن تقودنا إلى نهايات ثابتة ولا إلى حقائق أكيدة: عشرات الشهادات لمسؤولين حزبيين، وطلبة، وأمهات، ومحاربين قدامي، ومهووسين بالشيوعية وآخرين متمردين.
لقد أجرت سفيتلانا أليكسييفيتش مسحًا شاملاً للإنسان خلال المرحلة السوفياتية خلال أكثر من نصف قرن بما في ذلك رصدها لتواريخ المشاعر التي قلَّما التفت إليها مؤرخو الحروب. وربّما ألهمها اشتغالها في الصحافة الاستقصائية سنواتٍ عدة ابتكار تلك الأرشفة السردية التي ميَّزت مجمل أعمالها الروائيّة؛ ففي روايتها «ليس للحرب وجه أنثوي» (1985) اتكأت أليكسييفيتش على حوارات تنبضُّ بروح الخسارة والحسرة مع مئات النساء اللواتي قاتلن في الجبهة ضد ألمانيا النازية، ويبلغ عددهن حوالي مليون امرأة. وفي رواية «فتيان الزنك» (2016) استنطقت أليكسييفيتش بعض الأصوات السوفييتية من حرب منسيّة؛ حرب الاتحاد السوفييتيّ في أفغانستان (1979_1989)؛ إذ كان الجيش السوفييتيّ آنذاك يشحن قتلى الحرب من الجنود السوفييت في توابيت من الزنك إلى مسقط رؤوسهم. وفي روايتها «مسحور بالموت» (1993) تسرد أليكسييفيتش لحظات انهيار الاتحاد السوفييتيّ من خلال محاولات انتحار قام بها كثير من البشر العاديين الذين لم يستطيعوا التخلي عن أيديولوجيتهم الشيوعية. وفي «صلاة تشرنوبل» (1997) أجرت الروائية مقابلات مع خمسمائة ناجٍ وناجية من مأساة انفجار مفاعل تشيرنوبيل النووية، ورصدت مشاعر الحزن والغضب في صور سردية نابضة بالألم.
وفي روايتها «آخر الشهود» وثَّقت أليكسييفيتش اللحظات المفصلية الأليمة في ذاكرة عشرات من البشر من شهود الحرب العالميّة الثانية؛ لقد استنطقت ذاكرتهم الاستعادية لطفولة مغايرة: كانوا أطفالاً صغارًا جدًا تتراوح أعمارهم من الرابعة إلى الرابعة عشرة من العمر عندما اقتحمتهم الحرب فجأة، وسرقت منهم طفولتهم. وهي أحزان كونية كبرى لا تفرق بين عرق أو دين، وفي تصديرها لهذه الرواية تقول «في فترة الحرب الوطنية العظمى(1941_1945) قُتِلَ ملايين الأطفال السوفييت: روس، وبيلاروس، وأوكرانيون، ويهود، وتتار، ولاتفيون، وغجر، وكازاخ، وأوزبيك، وأرمن، وطاجيك». يتخلى الأطفال في الحروب عن دماهم المفضّلة من أجل قطعة خبز، وتتسلل إلى أنوفهم روائح الحرب التي لا تغادر الذاكرة مطلقًا، ويختلط البشر وتختلط الأماكن وتتبعثر إلى شتات ومنافٍ. وفي الحكاية الأولى للشاهد الأول تروي جينا بلكيفتش البالغة من العمر آنذاك (ستة أعوام) سردية الحرب من ذاكرة طفولية: «أنارت الشمس وجهي. شعرتُ بالدفء الشديد... حتى الآن لا أصدق بأنَّ أبي ذهب في ذلك الصباح إلى الحرب، كنتُ صغيرة جدًا، لكنني أعتقد بأنني كنت أدرك أنّني أراه لآخر مرة، ولن ألقاه أبدًا. كنتُ صغيرة.. صغيرة جدًا. وهكذا ترسّخ في ذاكرتي أنَّ الحرب تعني غياب أبي». إنَّ مشروع الروائيّة البيلاروسيّة سفيتلانا أليكسييفيتش في سردياتها التوثيقيّة هو أرشفة سردية للحروب المفصلية مع التركيز على استنطاق هوامش الحروب وتواريخ البشر.
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك