لا شيء يبرز على المشهد السياسي العالمي عند مراجعة تاريخ الاحتلال الصليبي لبيت المقدس سوى الأهمية الدينية والاستراتيجية للقدس وفلسطين، التي عبّرت عنها حملات وحروب امتدت قرونا من الزمان.
لم تتوقف محاولات الغرب الصليبي ومؤسساته للسيطرة على القدس منذ ذلك التاريخ، تقدموا أحيانا وتراجعوا أحيانا أخرى، لكن الواقع الآن هو أن تلك المدينة المقدسة وقعت تحت سيطرة الحركة الصهيونية، التي تسعى إلى تهويدها تماما وإلغاء هويتها الإسلامية والمسيحية.
شهدت مدينة القدس منذ القرون الوسطى سلسلة من الصراعات الدينية والسياسية التي أمست جزءا من تكوينها. واحد من هذه الصراعات الشهيرة هو الغزو الصليبي في القرن الحادي عشر.
أطلق البابا أوربان الثاني في عام 1095 مبادرة في مدينة «كليرمون» الفرنسية، حيث دعا «الفرسان الأوروبيين» للقتال في سبيل استعادة القدس من يد المسلمين، هذه الدعوة أطلقت سلسلة من الحملات الصليبية التي استمرت عقودًا.
وصلت الجيوش الصليبية إلى أرض الشام، وبدأوا في الهجوم على المدن الفلسطينية، بما في ذلك القدس. وفي عام 1099 استولى الغزاة الصليبيون على مدينة القدس.
تعرضت مدينة القدس لمعاناة لا يمكن وصفها بعد الغزو الصليبي، بحسب المصادر التاريخية المحايدة. حدثت مجازر واسعة النطاق وتدمير هائل في جميع أنحاء المدينة، تم ذبح الآلاف من المسلمين وحرق المساجد، قيل إن الدماء كانت تتدفق في شوارع المدينة بشكل يشبه الأنهار، وبحسب المصادر ذاتها فإن المسيحيين العرب في تلك المدينة لم يسلموا من محاولات التهميش والإقصاء.
إن الغزو الصليبي لمدينة القدس، الذي انتهى بمعركة «حطين» عام 1187 ميلادية بقيادة صلاح الدين الأيوبي، كان حدثًا مأساويًا في تاريخ المنطقة، لا يمكن نسيانه أو تجاهله، أو فصله عن واقع المدينة المحتلة من «إسرائيل» حاليا.
يقول عضو مركز «مؤرخ» في الكويت (مؤسسة بحثية غير ربحية) أحمد ناصر الصميط إن مشكلات أوروبا السياسية والاقتصادية في القرن الحادي عشر، إضافة إلى الرغبات الدينية في السيطرة على المراكز المسيحية في الشرق، كانت الدافع وراء انطلاق الحملات الصليبية على «بيت المقدس».
وأضاف أن الأوروبيين الصليبيين «حاولوا فرض عقيدتهم على أهل بيت المقدس... وكانت العملية الدينية هي المداد الدعائي الذي استخدم لتجيير هذه الحملات، وإنقاذ أوروبا من أعبائها آنذاك».
وشدد الصميط، الذي حصل على إجازة الماجستير في الحروب الصليبية، على أنه في جميع مراحل الصراع على القدس «لم تشهد سكينة واستقرارا إلا في أثناء مراحل الحكم الإسلامي... فرض المسلمون معادلة لاحترام الديانات كلها، وتقبل كل سكان المدينة».
وأشار إلى فتح عمر بن الخطاب للقدس عام 637 ميلادياً، والعهدة العمرية التي كفل فيها للمسيحيين أمنهم وحريتهم الدينية، رافضا الصلاة في كنيسة القيامة، حتى لا يعتبر ذلك رسالة بالسيطرة الإسلامية عليها. ولفت إلى أن «الصليبيين والاحتلال الإسرائيلي مارسوا كل أشكال الإقصاء، والتطهير العرقي والتمييز العنصري والاضطهاد الديني».
وبحسب دراسة بعنوان «القدس بين الاحتلال الصليبي والاحتلال الصهيوني» أعدتها الباحثة ميمونة عبدالمعز حريز، للحصول على درجة دبلوم الدراسات الفلسطينية من أكاديمية دراسات اللاجئين لعام 2018-2019، فإن هناك عدة عوامل تشابه بين احتلال الصليبيين والإسرائيليين لمدينة القدس، الأول يتمثل في الدور الغربي في الغزوين، إذ إن فكرة الحروب الصليبية بدأت من أوروبا الشرقية عام 1095، من خلال مؤتمر كليرمونت، وكذلك الغزو الصهيوني، بدأ إعلان تنفيذه منذ المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا عام 1897م.
ومن ضمن العوامل المشتركة هي أن الحروب الصليبية جاءت بمباركة بابوية وزعامة سياسية عسكرية، وكذلك الهجرات اليهودية جاءت بتأثير الحاخامات ووجهتها قيادات سياسية تدربت في أوروبا. كذلك سير الحملات متشابه، فالصليبيون ساروا على طول الساحل، والأسطول الإيطالي يعينهم في احتلال موانئ فلسطين، وبعد أن احتلوا القدس توسعوا نحو الشرق باتجاه الأردن. الغزو الصهيوني هو الآخر بدأ بالساحل ثم الجزء الغربي حتى آيلة على خليج العقبة إلى نهر الأردن شرقا، ثم مددت إسرائيل سيطرتها لتشمل الضفة الغربية كاملة، والجولان، وسيناء قبل انسحابها إثر هزيمتها على يد الجيش المصري في أكتوبر عام 1973.
الصليبيون حين دخلوا إلى المدينة عام 1099 ارتكبوا أشكالا متعددة من القتل والتنكيل بالمسلمين في كل المناطق التي سيطروا عليها، وبالمثل فعل الصهاينة بأبشع أشكال القتل والترهيب للمسلمين حين احتلوا فلسطين، مثلما فعلوا في مجزرة دير ياسين قرب القدس. الصليبيون عند دخول القدس اعتمدوا على بناء قلاع لهم على الجبال والمناطق المرتفعة لتطل على الطرق والأودية، وبعد مجيء الاحتلال الصهيوني عمدوا على الاستيلاء على هذه القلاع وبنوا مكانها مستعمرات مثل قلعة القرين التي اصبحت مستعمرة ايلون.
وعن وجه التقاطع بين الحملات الصليبية والمشروع الصهيوني قال الباحث والمفكر الفلسطيني علي بغدادي إن كلا المشروعين «بنيا على أسس دينية مسلحة»، ولم يغفل الإشارة إلى العداء التاريخي بين المسيحية واليهودية، الذي تقلصت مساحته في فلسطين.
وشدد بغدادي على أن الحملات الصليبية والمشروع الصهيوني «كلاهما حركات عنصرية غير انصهارية... قدما إلى القدس من الغرب» وفق تعبيره.
وأضاف أن «كلاهما (الحملات الصليبية والمشروع الصهيوني) اعتمد على الدعم الغربي ماليا وعسكريا ودعائيا... ونشآ في فترة كان العالمان العربي والإسلامي في حالة تشرذم وتفرق».
وأشار الباحث الفلسطيني إلى أن «الحملات الصليبية جاءت بمباركة بابوية سياسية وعسكرية... وكذلك الهجرات اليهودية غير الشرعية إلى فلسطين كانت بتأثير من الحاخامات اليهود، وفي وجهها وضِعَت القيادات السياسية التي تدربت في الغرب الأوروبي» على حد تعبيره.
وأضاف مستعرضا أوجه الشبه بين الغزو الصليبي للقدس والاحتلال الإسرائيلي قائلا إنها «إنه كلها حركات إرهابية اعتمدت القتل... الصليبيون ارتكبوا أشكالاً متعددة من القتل والتنكيل ضد أهالي الحواضر الفلسطينية التي اجتاحوها، وكذلك فعل الصهاينة حينما احتلوا فلسطين» على حد تعبيره. واعتبر بغدادي أن الغزو الصليبي للقدس والاحتلال الصهيوني لفلسطين «أحد تجليات التنافس الحضاري بين الشرق والغرب».
وأشار إلى أن «الدعم الغربي كان من أهم عوامل نجاح الغزو والاحتلال... أوروبا دعمت الصليبيين عسكريا وماليا وكذلك فعلت مع المشروع الصهيوني».
وختم بالقول إن «حملات الفرنجة احتوت على بذور الإمبريالية الأوروبية، وما كان المشروع الصهيوني إلا امتدادا لذلك... في نهاية الأمر تعرض المسلمون لتسع حملات صليبية، وهزموها... وسيهزمون المشروع الصهيوني» وفق قوله.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك