لقد سجل القرآن الكريم مكانة القدس في الإسلام حين وضح أن الله سبحانه تعالى أسرى بعبده وحبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث قال جل شأنه: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير).
وسُمِّي بالمسجد الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة والمراد بالبركة المذكورة في الآية الكريمة في قوله تعالى (الذي باركنا حوله) البركة الحسية والمعنوية، فأما الحسية فهي ما أنعم الله تعالى به على تلك البقاع من الثمار والزروع والأنهار، وأما المعنوية فهي ما اشتملت عليه من جوانب روحية ودينية، حيث كانت مهبط الصالحين والأنبياء والمرسلين ومسرى خاتم النبيين، وقد دفن حول المسجد الأقصى كثير من الأنبياء والصالحين. والمسجد الأقصى: هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى». ومعنى هذا الحديث أنه لا يسافر أحد لمسجد للصلاة فيه إلا لهذه المساجد الثلاثة لا أنه لا يسافر أصلاً إلا لها، وقد بني المسجد الأقصى بعد المسجد الحرام بأربعين سنة كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال «المسجد الحرام»، قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة، وأينما أدركت الصلاة فصل فهو مسجد».
وللمسجد الأقصى مكانته الجليلة في الإسلام فهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. روى الطبري في تاريخه عن قتادة قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وبعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا. ومما يدل على فضل بيت المقدس ومكانته أنه أرض المحشر والمنشر، وعن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت قلت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟ قال: «أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره»، وعن ابن عباس -رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنة فلينظر إلى بيت المقدس». وفي مدينة القدس دفن عدد كبير من الصحابة والتابعين منهم الصحابي الجليل عبادة بن الصامت وشداد بن أوس -رضي الله عنهما – فهو مهد النبوات والشرائع والرسل الذين وجدوا هناك في هذا العصر، ولقد كان المسجد الأقصى قبلة لهم، وهذا كله يمثل البركة الدينية التي أحاطت به، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع على الأرض فقال: «المسجد الحرام»، قلت: ثم أي، قال: «المسجد الأقصى» قلت: وكم بينهما؟ قال: «أربعون عامًا، ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركت الصلاة فصل فيه فإن الفضل فيه».، وللمسجد الأقصى ارتباط وثيق بعقيدتنا وله ذكريات عزيزة وغالية على الإسلام والمسلمين، فهو مقر للعبادة ومهبط للوحي، ومنتهى رحلة الإسراء وبداية رحلة المعراج، وقد مرّ الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى المسجد الأقصى بالبقعة المباركة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام وهي طور سيناء فصلى بها ركعتين، ومرّ بالبقعة المباركة التي وُلِد فيها عيسى عليه السلام وهي بيت لحم، فصلى بها ركعتين، ثم وصل إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في جمع من الأنبياء والرسل، فصلى بهم جميعًا، ثم عرج به إلى السماء، فرأى من آيات ربه الكبرى، ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرحلة المباركة وأخبر قومه كان منهم من صدق ومنهم من كذب، وذهب بعضهم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأخبروه، فما كان جوابه إلا أن قال لهم والله لئن كان قاله لقد صدق قالوا: تصدقه على ذلك، قال: إني أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه على خبر السماء.
وفي رحلة الإسراء والمعراج فرض الله سبحانه وتعالى الصلاة وهي الصلة القوية بين العبد وربه، وكانت القبلة آنذاك هي صخرة بيت المقدس، حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستقبالها.
وقد اختارت الإرادة الإلهية أن يكون الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى وصلاً للحاضر بالماضي وتقديرًا لمنزلة هذه البقعة المباركة التي عاشت عمرًا كبيرًا تنتشر على ظهرها الهداية، وتستقبل في رحابها النبوات، وظل بيت المقدس مهبط الوحي الإلهي سنين عديدة، فلما عصى اليهود أمر ربهم وتنكروا لوحي السماء تحولت النبوة عنهم، وانتقلت إلى ذرية إسماعيل، وتحولت بالتالي القيادة الروحية إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، فانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه البقعة المباركة تقديرًا لإخوانه السابقين من الأنبياء والمرسلين، وإعلانًا عن إكباره لهم وللدين الذي انتشر نوره وسناه في هذه البقاع المباركة.
وقد جمع الله تعالى له الرسل السابقين فاستقبلوه وصلى بهم إمامًا وطبق الله في ليلة الإسراء والمعراج وفي رحاب المسجد الأقصى ذلك العهد والميثاق الذي أبرمه منذ القدم مع الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضًا ويمهد بعضهم لبعض، وأن يؤمنوا بمن سيرسله، وهكذا كانت إمامة الرسول صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمرسلين في هذا المكان المقدس إعلانًا لختم رسالات السماء، وأن رسالته خاتمة الرسالات ودستوره السماوي وهو القرآن كلمة السماء الأخيرة، وأنه صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين. ، وفي هذا إعلان لعالمية الإسلام، وإعلان بأنه التشريع الخاتم والرسول الذي ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وأن حادث الإسراء والمعراج ليضع في أعناق المسلمين في كل الأرض أمانة القدس الشريف، وأن التفريط فيه تفريط في دين الله، وسيسأل الله تعالى المسلمين عن هذه الأمانة إن فرطوا في حقها أو تقاعسوا عن نصرتها وإعادتها، فعلينا أن نوحد جهودنا، وألا نتفرق لنكون بوحدتنا قوة إسلامية لا يستهان بها، ولا تضعف في المطالبة بحقوقها فطريق الوحدة مناشدة القوة هو طريق الحفاظ على مقدساتنا التي هي جزء من عقيدتنا وديننا.
* باحث وكاتب إسلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك