في كل حرب أو معركة يخوضها المسلمون، يطرح السؤال: ما الأسباب التي تقود إلى تحقيق النصر. وهو الأمر الذي يتجدد النقاش بشأنه في ضوء حرب الإبادة التي يشنها الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني وخاصة في قطاع غزة رمز العزة والصمود.
ولقد جعل الله للنَّصر أسبابًا إن أخذ بها المسلمون نصرَهم الله على أعدائهم، وهذه الأسباب مبَيَّنةٌ في القرآن الكريم، (إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أقْوَمُ) [الإسراء: 9]، فالقرآن تبيان لكل شيء، ومن أعظم ما بيَّنه القرآن أسباب النصر والتمكين؛ ومن أهمها ما يلي:
(1) السبب الأول: الإيمان والعمل الصالح: قال الله سبحانه: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْـمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، وقال الله: (إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأشْهَادُ) [غافر: 51]، وقال تعالى: (إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج: 38]، فالله مع المؤمنين الصالحين بالنصر والتأييد، وقد وَعَدَهم بالدفاع عنهم، وضمِن لهم إن حققوا الإيمان اعتقادًا وقولًا وعملًا ألَّا يجعل للكافرين عليهم سبيلًا مستمرة في كل حين؛ فقال: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء: 141]، وقد ينتصر الكفار في بعض المواطن والأوقات بسبب تفريط المؤمنين في الأخذ بأسباب النصر، وسنة الله التي لا تتخلف أن ينصر المؤمنين كاملي الإيمان في الحياة الدنيا على أعدائهم بالغلبة إن قاتلوهم، وبالحُجة إن ناظروهم، وبالانتقام منهم إن قتلوهم وظلموهم، فالصحابة رضي الله عنهم حين حققوا الإيمان والعمل الصالح، نصرهم الله على جميع أعدائهم، فهزموا جيوش المرتدين، وفتحوا فارس، وغلبوا الروم، ولم يستطع أحد أن يقف أمامهم.
فالنصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل، فمن نقص إيمانُه نقص نصيبه من النصر والتأييد، وإذا أُصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، فإنما ذلك بذنوبه؛ قال الله تعالى: (وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
(2) السبب الثاني من أسباب النصر: الإخلاص: أعظم ما أمر الله به التوحيد والإخلاص، وأعظم ما نهى الله عنه الشرك، ومنه الرياء، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، فالإخلاص في الجهاد من أعظم أسباب النصر، ولا يكون الجهاد عملًا صالحًا مقبولًا إلا إذا كان خالصًا لله، وإلا كان رياء وسمعة؛ قال الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110]، 244]، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»، فهدف المسلمين من الجهاد هو إعلاء كلمة الله، والدفاع عن المسلمين، وحماية دينهم ومقدساتهم، وأعراضهم وأموالهم وأرضهم، فالجهاد في الإسلام ليس لأطماع دنيوية، ولا لمنافع مادية، وإنما هو لإعلاء كلمة الله سبحانه.
(3) السبب الثالث: نُصرةُ دينِ الله: (يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]، وقال تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) [الحج: 40 - 41]، فمن أعظم أسباب النصر إقامة دين الله، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فواجب على المسلمين حكَّامًا ومحكومين أن يعملوا بالأسباب المشروعة لإقامة دين الإسلام ونشره، والدفاع عن حرماته.
(4) السبب الرابع: اجتماع الكلمة على الحق، وإصلاح ذات البين، وعدم التــنازع والتـفرُّق، والقتال تحت راية واحدة بقيادة واحدة: قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال: 1]، فأول طريق التمكين للأمة تقوى الله وإصلاح ذات البين، فإذا لم يحقق المسلمون تقوى الله بطاعة الله ورسوله، وتنازعوا واختلفوا، زالت قوتهم، وتسلَّط عليهم أعداؤهم.
(5) السبب الخامس من أسباب النصر: إعداد ما يُستطاع من قوَّة: القوة مطلب شرعي، فالإسلام دين القوة والعزة، وقِوام الإسلام بكتابٍ يهدي، وسيفٍ ينصر؛ قال الله تعالى: (لَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد: 25]، وقد أمر الله المؤمنين بتحصيل القوة بجميع معانيها وأنواعها بقدر الاستطاعة؛ قال الله سبحانه: (وَأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ).
(6) السبب السادس: الصبـر في الجهاد، والثبات عند اللقاء: قـال الله تعالى: (وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عـمــران: 120]، وقال: (وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]، وقــال: (يَا أيُهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفَرَجَ مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا».
(7) السبب السابع: إقامة الصلاة والإكـثـار مـــن ذكر الله واستغفاره ودعـاؤه والاستغاثة به: لا بد أن تكون صلة المجاهدين بالله عظيمة لتحقيق النصر؛ ولذلك أمرهم الله بالمحافظة على الصلاة وإقامتها، ولم يرخص لهم في تركها حتى في حال الخوف والقتال؛ قال الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أوْ رُكْبَانًا فَإذَا أمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 238، 239]، وقال سبحانه: ﴿ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153]، فمن أسباب النصر: إقامة الصلاة، ومن أسباب النصر: الإكـثـار مـن ذكر الله واستغفاره ودعـائه والاستغاثة به.
(8) السبب الثامن من أسباب النصر: التوكل على الله: يجب على المسلمين أن تتعلق قلوبهم بالله وحده في طلب تحقيق النصر، ولا تتعلق قلوبهم بأحدٍ غير الله؛ قال الله تعالى: (إنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160]، وقال سبحانه: (وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 126]، فالتوكل من أعظم أسباب النصر؛ لأن المتوكلين يفوضون أمورهم إلى الله وحده القادر على كل شيء، فيعتمدون على الله في جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم، مع أخذهم بالأسباب الشرعية المتيسرة لهم؛ قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3].
* داعية ومفكر إسلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك