أُتيحَ لي أن أتعرّف على الأستاذ علي النهام على فضاء الأوراق من خلال ديوانه (دهشةُ النّاي)، وأنا عندما أصافحُ لشاعرٍ ديوانًا جديدًا أسأل: ما الثابت؟ وما المتغير؟
عندما نطالع هذا الديوان الجديد، هل استطاع علي النهام أن يقلبَ الطاولة؟ وأن يتمرد على ذاته؟ وأن يحتفر بأظافره معجمًا جديدًا ونسقًا جديدًا من الأخيلة والصّور؟ هذا سؤال، ويتبعهُ بالضّرورةِ سؤالٌ آخر: أين علي النهام من الخارطة الشعريّة البحرينيّة؟
و لنا أن نعرف، وأنا أعرف أنّ القارئ العربي ليسَ متابعًا للشّعرِ البحرينيّ بالقدرِ الكافي
الشّعرُ البحرينيُّ تتوزّعهُ تياراتٌ أربعة: تيّار الإحيائيّة، وتيّار الإحيائيّة الجديدة، وتيّار الرومنسيّة، وتيّارُ الحداثة .
وأنا في تقديري الخاص، وقد أكونُ مخطئًا في هذا التقدير: أنّ علي النهام هو الامتداد الطّبيعي لمدرسة قاسم حدّاد، هو الامتداد الطّبيعي لمدرسة الحداثة الشّعريّة بنسق صورِهِ وأخيلتهِ (البيوريتانية)، أخيلة ترتبط بالطّبيعة، وتستحثُّ الطّبيعة، وتستفزُّ مفرداتِ الطّبيعة، حتى عندما تصل إلى القصيدة الأخيرة من الديوان تكاد تشعر أنّ الذات الشّاعرة لا تعيشُ في المدينةِ أصلًا، وإنّما تلتحمُ بالطبيعةِ طولَ الوقت –هذه واحدة–، الأمر الثاني: نحنُ عندما نقارِبُ نصًّا شعريًّا – وبالمناسبة لفظة (نقد) انتهت من المشهد، ما عاد الناس يستخدمون تعبير (نقد)، وإنّما أصبحوا يستخدمون تعبيرًا آخر (مقاربة) – فنحن نقارب النقطة التي نزعم أنّنا فهمناها من النّص، لكنّنا لا نحتكمُ المعنى .
علي النهام استطاع أن يجدّد َ في عدّةِ مسارات، والمقاربة الحداثيّة تقول لك أنّه ينبغي أن تُقاربَ النّصَّ الشّعريَّ من خلالِ خمسةِ مستويات، أبرزها مستوى الإيقاع لأنَّ علي النهام ما زالَ محتفظًا بالإيقاع الخليلي، ولم يبرح مدائِنَ الإيقاع الخليلي، وبالتالي على المستوى الإيقاعي ركبَ سمك ُ البحرِ البسيط في عدّة مواضع، وهذا يجعلني أسأل: لماذا هذه اللُّحمة بينَ شعريّته وبين البحر البسيط؟ والبحر البسيط يربطهُ العَروضيون بالطويل، ولكنّهم يرونَ أنّهُ بحرٌ أرقّ، يتعلّق بالموضوعات الأكثر رهافة، وهذا يجعلنا نعود مرّة أخرى إلى هذا الدّيوان .
النّاقد يحارُ عندما يقاربُ نصًّا شعريًّا؛ لأنّه عندما يقاربُ النَّصَّ الشِّعريّ يكادُ كما قال داماسو ألونسو «يمسِكُ بشكيمتهِ عصفورًا، فإذا أطبَقَ شكيمَتَهُ مات العصفور»، معنى هذا أنّك ينبغي أن تمسك بحذرٍ شديد، فلا تكون الشكيمَة النقديَّة بالغةِ الإحكام، وأن تسمح لهذا العصفور بأن يتنفَّس. على هذا الأساس أعود هنا إلى شعرية علي النهام .
علي النهام يجدّد على المستوى المورفولوجي الاشتقاقي .
لم أجد شاعرًا يستخدم تعبير (يؤبجد)، ولم أجد شاعرًا يستخدم تعبير (يجوهر)، هو اشتق أو احتفرَ اشتقاقًا لهذين التعبيرين ونَحَتَهُما بأظافره. الذات الشاعرة هنا مطالبة بتعبير الشّاعر نفسه أن تجوهرَ الطيب، وهذا النّوع من الاشتقاق يجعلني أسأل: هل مهمة الشّعراء أن يستَبْقوا المستوى اللّغوي كما هو؟ مراميق يقول إن الشّعراء هم طليعةُ الخلقِ في اللّغة، فإذا استسلمَ الجميع للغةٍ بحسبانها عُرفًا، فإنَّ الشّاعرَ هو الكائنُ الوحيد الذي يخترقُ هذا العُرف ويصنع المعابرَ الجديدة .
على هذا الأساس.. إذا اتفقنا أنّ علي النهام هو الامتداد الطبيعي لمدرسة قاسم حدّاد بنسقِ صورهِ وأخيلتهِ وحداثتهِ الخاصّة، لنا أن نستدير مرَّة أخرى إلى الشّعرِ البحرينيّ من خلال موقع علي النهام في هذا الشّعر ومن خلال هذا الديوان الذي ينتظمُ بينَ دفَّتيه ثلاث وثلاثونَ قصيدة، ليست معمّدة بماءٍ واحد، هناك قصائدٌ حلّقت، بل صعدت إلى الجوزاء، وهناك قصائد أرادَ من خلالها أن ينقل رسالة، فكانت الرّسالة مؤنةً وعبئًا على القصيدة، حَدَثَ هذا في التفاتات قليلة، ولكنَّ علي النهام يمتلك أدواته ويمتلك البوصلة التي تذهب بهِ إلى مساحة الابتكار. – قبل أكثر من عشرينَ عامًا سألتُ الكاتب العراقي الكبير جبرا إبراهيم جبرا، وهو من أكبر صنّاع الحداثة العربيّة، قلت له: ما أصعب مهمة تواجهك؟ قال لي: أن ابتكرَ مساحةً جديدة. – بدأ بإهداء الديوان إلى الرّفاق، ولا ندري من هم الرّفاق بألِف لام العهد، لكنّه تركَها سائبة معلّقة لتأويل القارئ، من هم هؤلاء الرفاق في بطاقته التعريفيّة؟ هم الذين تقاسموا معه الشّعر والخبز والأحلام، فبدأ بتوطيد هذه الأقاليم الثلاثة وأدار عليها قصائده، وأنا أعتقد أنّ هذا الدّيوان ينتمي تصنيفيًا إلى المدرسة الرومنسيّة الجديدة بين ظفرين؛ لأنّ المدرسة الرومنسيّة الجديدة كما يقول روجر هنكل ترى فيها الأشياء من وراء ضباب، لا يحدد شيئًا بذاته، لا يرسم مسارات بعينها، يحفّز بأكثر ممّا يحدّد، نحن كنقّاد كائنات مشاكسة، يمكن الكَرمة علمتنا في مدرستها العريقة أن نمعن في هذا الشّكاس، وأن نستفزَّ الركود.
شعريّة علي النهام تتحرك في ثلاث مساحات محدَّدَة، وهو زاد هذا التحديد بالتحديد الذي أحكمهُ في الإهداء، منذ عشرين عامًا لم نكن نمرُّ على الإهداء، لكن مع فتوح علم النّص، من ظهور فان دايك رائد علم النصّ أدخل الإهداء، فأصبحنا نعود إلى عتبة العنوان، أصبحنا نعود إلى عتبة الإهداء، وأصبحنا بالضّرورة نعود إلى الغلاف بألوانهِ وأطيافه .
علي النهام تحدّث عن (كورونا)، وتحدّث عن ما يسميه الدكتور أحمد معراف بالأدب الكوروني، وأنا أؤمن عليه في هذا المصطلح، أدبٌ ظهرَ مع هذه العزلة المقبضة ومع هذه العزلة غير المسبوقة مع التباعد الاجتماعي يمكن أن نسميهُ مجازًا بالأدب الكوروني .
استخدم التناص طول الوقت، وآخر قصيدة ودعنا بها في الديوان حذّرَ أنَّ النبوّةَ العائدة فقدت سحرَ العصر، قالها لنا صراحةً، النبوّة العائدة فقدت سحر العصر، ولن نستعيد سحرَ العصر، ولن نستطيع أن نغيّر، أو أن يكون لنا موطئ تحتَ الشّمس إلا في حالةٍ واحدة: أن نخلعَ النعلين مجدَّدًا وأن نتطهَّر .
من أول قصيدة إلى آخر قصيدة يشتغل على ثيمة محددة، وبالتّالي نحنُ أمامَ ديوانٍ بالمعنى الاصطلاحيِّ الكامل؛ لأن هناك فروقًا بين الدّيوان والمجموعة الشّعريّة. القصائد هنا ليست منجّمة، هناك خيط دلالي رابط ضامّ يأخذ هذه القصائد ويجمعها في جديلةٍ واحدة، وبالتالي نحن بالضرورة أمام ديوان بالمعنى الاصطلاحيّ الكامل.
في العنوان الاتساع هنا يعني في الوجه الآخر من العملة رفيف الأجنحة أي: الحريّة، وبالتالي العنوان دالّ، ويشاكس القارئ من اللّحظة الأولى في الواقع إنّ علي النهام من أكثر الشعراء في السنوات العشر الأخيرة ارتباطًا بالطبيعة، ومن أكثر الشعراء اقترابًا من أشجارها ونباتها وحيوانها، واستخدمَ كل هذه المفردات في نسقِ صورهِ وأخيلته لدرجة أنّهُ يسمي النّخلة تسميةً غريبة «جدتي الكبرى»، وكأنّ بينهُ وبين الطبيعة ارتباطًا سلاليا، كأنّ الطبيعة جزءٌ من رحِمه أو كأنّه جزءٌ من رَحِمها. (جّدتي النخلة الكبرى)
«وجدّتي النخلةُ الكبرى تعاتبني… على صلاتي ولم آتِ بآمينِ»، ولاحظ معي أن كل لحظاتِ العشق تحوّلت في معجمهِ إلى محاريب، وإلى صلاة، وإلى قداسة، وإلى معانٍ علويّة لا تعرفها الأرض وبالتّالي سرَّبَ أو فَتَحَ ثلمةً للمنحى العرفاني أو الصوفي طولَ الوقت. أنتَ أمامَ ذاتٍ عاكفة على محاريبها، تصنعُ جملتها الشّعريّة، وتنحتُ صورَها وأخيِلَتها.
«يا جدّتي نشوةُ الألوانِ تُسكرني… يا للعراءِ إذا ما جَفَّ يقطيني». العراء واليقطين والنخل والزهور، هل الذات الشاعرة هنا ابنةُ المدينةِ على الحقيقة أم أنّها ابنةُ البراري والصحراءِ البِكر؟ أَتَصَوَّر أنَّ استدعاءَ الطبيعةِ بهذا الزَّخَم وبهذهِ الكثافة معنىً متعمد ومقصود.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك