شعرِيَّة علي النهام هي ذاتها شعرِيَّة نزار «الشعرِيَّة الحسِّيَّة» التي لم تذهب أبدًا إلى مساحاتِ التجريب أو التجريد و لو مرة واحدة، لم أضبِط أبدًا أي بصمات أدونيسيّة؛ لأنَّ الشِّعرَ التجريديّ ارتبطَ بأدونيس، سواءً التجريد الكوني أو التجريد الإشراقي أو العرفاني، وفي تقديري الخاص كناقد وأنا لا أُلزم بهِ غيري بأنَّ أدونيس بهذا التجريد والتدفيف أضرَّ بالقصيدة؛ لأنَّ المتلقّي العربي نزّاع إلى العالمِ الحسّي، نزّاع إلى ملامسةِ الأشياء، نزَّاع إلى الطبيعة، ومهَمَّة الشّعر كما قال نزار قباني من عصر الإلكترون إلى رجل المغارة أن تلامسَ الأشياء، شعريَّة تُمعِن في التدريج ولا تلامس الأشياء لن تخلُقَ المتعة.
يرى أنَّ هذهِ الطَّبيعة لا معنى لها ولا جدوى إلّا إذا تأسّست على بذرةِ النّساء، المرأة تتماهى مع العالم والعالم يتماهى مع المرأة، «مُوَحَّدَ القلبِ آتٍ من دمي انفصلت… كلُّ النساءِ وكانت أصلَ تكويني» - «شمسي الأخيرة قامت في الندى جملًا…. قصيدةً، وردةً، حُلمًا يغنّيني» إلى أن يقول.. «إن ماتَ فيَّ مجازٌ سوف تَعبُرُني…. من المجازاتِ أنهارٌ لتحييني / أو انتبذتُ قَصِيَّ القولِ مِن وَجَعٍ… قيامةُ الشّعرِ قامت في شراييني»، لا تقومُ قيامةُ الشّعر إلّا حيث توجدُ النّساء، المرأة معنى العالم، والعالم لا معنى لهُ دون المرأة، هذا المعنى ألحَّت عليهِ الذاتُ الشاعرة في أكثرِ من عشرينَ قصيدة على الأقل، مركزية الأنثى ورمزيتها في معجمه أو في نسقِ صورهِ وأخيلتِه مسألة ملحوظة. شعريَّةُ علي النهام تشعر للوهلة الأولى أنّها نَضَجَت، أنتَ أمام شعريّة ناضجة، أقولُ نضجت ولا أقول احترقت، ولكن عندما يكونُ التعبيرُ نيئًا لا يخلق متعة. قديمًا سئلَ الناقدُ ربيعةُ ابنُ حِذار عن شعرِ شاعرٍ، وكان الشعرُ بالنّسبةِ لهُ رديئًا، كانتِ القصيدة سيئة، فلمّا سئلَ عن شعريَّتهِ قال: «لحمٌ أُسخِن، لا هو نَضِجَ فأكل، ولا تُرِكَ نيِّئًا فيُنتفعُ به»، وأنا أعتقدُ بهذا المعنى أو استيحاءً لهذا المعنى أنَّ شعريّة علي النهام في الثلاثة وثلاثين قصيدة نَضَجَت، أنتَ تشعر أنّك أمام صورٍ مختمرة، أنّكَ أمام شاعرٍ يعرفُ إلى أينَ يتّجه، ولمن يكتب وهذا سؤالٌ مهم.
عندمَا تفتحُ معجمًا عربيًّا لا تستغرب أنَّ لفظة «الجون» تعني في المعجم العربي «الأبيض والأسود معًا»، لفظة الجون تُطلَق على الأبيَض وتُطلَق على الأسوَد، لأنّك أمامَ لغةٍ تخلَّقَت في مَحاضِرِ المفارَقَة، ولا تنقَدِحُ شرارةُ الشِّعرِ إلّا مع المفارقة.
«يا صمتها المشتهى المدسوس في لغةٍ… بخورها شجرُ الأشعارِ إن بُحتُ»
هل يجتمع الصمتُ مع اللغة؟ هل يجتمعُ الصّمتُ معَ الصوت؟ في النسقِ العقليِّ لا يجتمع، ولكن في شعريّة علي النهام يجتمعان، خصوصًا عندما تظهرُ الأنثى في المشهد لتعطي للعالم معناهُ ودِلالَتَه
«قالت نعم، ربّما إن جاءَ سامرهُ…. يُصَفِّقُ الصَّمتُ حتَّى يُزهِرَ الصَّوتُ»
انظر معي إلى هذه المفارقات التي تتضام كالأنسجةِ والخلايا، ولم تفطِن أنّهُ سرَّبَ إليكَ مفارقة لا تحصل في العادة، (يُصفّق الصمت حتى يزهرَ الصوت) أنتَ أمامَ صوتٍ نَتَجَ من الصمت، وفي النَّسقِ العقليّ الصمتُ لا يمكن أن يُنتجَ صوتًا، لكن في النسقِ التخيلي والشّعري في فانتازيا علي النهام الصمت يمكن أن يخلقَ صوتًا.
الإنسان العربي المكبوت، مقهور، محاصر بالمحظورات والتابوهات والأحوطيّات نحنُ الثقافة الوحيدة التي تعرفُ ثقافة الأحوطيّات، إذا سألتَ رجلًا عن شيء قال لك خذ بالأحوط، هل مهمتنا في الحياة أن نأخذَ بالأحوط؟ وهل يظلّ الإنسان العربي عائشًا في هذا المحيط من القهر؟
يقول: «وربّما في احتراقِ الماءِ يُشعلنا…. نهر الصباباتِ حتّى يرتوي الكَبتُ» ارتواء الكبت هو الهدف الاستراتيجي والمعلَن.
بقيَ أن نقول أنّهُ يوظِّفُ نَسَقينِ من المُعجم: المعجمُ الصوفيّ بكلِّ أطيافهِ ومصطلحاتهِ ودرجاته، المكابدات والمواجيد والقطب والمريد، كل الاستدعاءات الصوفيّة وَقَعَ استنفاذها، والمعجمُ الثاني هو المعجم الموسيقي، الأقرب إلى الدلالات والمصطلحات الموسيقية.
«فللمعاني رحيلٌ في مشاعرنا …. كرحلةِ الضوءِ حتّى يسكُنَ الحَدَقَ»، الشعرُ لديهِ يتماهى مع الإحساس.
قبلَ أن أبرح هذا المكان.. قَدَّمَ تعريفًا غريبًا للشّعر!!
إذا سألتهُ ما الشعرُ سيقول لك: الشعرُ طفلٌ بريء، يعانقُ شقراء مفعمة بالتّورّد و الحياة، يعانِقُ هذه الشّقراء في فضاءٍ تعْبرهُ أنفاسُ الأنبياء، كيف يجمعُ كلّ هذه بجملة واحدة!!
«فالشعرُ طفلٌ يَمانيٌّ تُعانقهُ.. شقراءُ شاميّةٌ تستعذبُ الغَرَقَ
تَضُمُّهُ فيراها نِصفَ آلهةٍ.. وقد رأتهُ نبيًّا يَعبُرُ الطُرُقَ»
أنا في تقديري الخاص، وطبعًا قد تسمح الظروف بكتابة دراسة نقديّة إضافيّة؛ لأنَّ الكلام الشفاهي لا أظنّهُ يستوعب هذا، ولكن أُشيدُ بآخرِ قصيدةٍ ودّعنا في الديوان، قصيدة «سَفَرٌ عَبرَ الموت»، استخدم هنا التناصّ. المعكوس، الذي نعرفهُ أنَّ النبيَّ موسى عليهِ السّلام - وهو الأكثرُ ذكرًا في القرآن - أمسكَ بالعصا، واستخدمَ السّحر (سحر العصا)، لكنَّهُ هنا استخدمَ تناصًّا معكوسًا، وطَالَبَ العالمَ العربيّ بأن يستعيد نُبُوَّة عصا موسى..
«موسى، أينَ النّار؟
كيف ينامُ الوطنُ المفجوعُ بهذا الليلِ العار؟»
يبدأ معك هذه البداية الصادمة!! وكأنَّهُ لم يسائِل موسى، لكن يسائِل عالَمًا عربيًّا يَغَطُّ في الاستجداء ولغةِ الاستباحة والهزائم
«هل ضيّعتَ عصاكَ الأولى؟
في سودِ الخوفِ ورجعتَ الآنَ تراودُ قِبلتنا وتتاجرُ بالأحرار؟!«
أنا في تقديري الخاص: أجمل قصيدة بلغ فيها التصعيد الوجداني والدلالي ذروتهُ هي القصيدة التي ودّعَ بها وذَكَّرَنا بأقصانا.
علي النهام.. قد نختلف أو نتّفق مع تقدير تجربته أو معجمه أو مجازه أو نسق صوره وأخيلته، لكن لا نختلف على أنّه أصبحت له طريقةٌ خاصَّة، لا بدَّ أن نعترفَ أنَّ علي النهام أصبح له طريقتهُ الخاصّة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك