سيدة الحِكايات الثقافية المُمتِعة على الشاشة، ملِكة الحضور المؤثر على عرش الإعلام الثقافي الخليجي، صورةٌ فصيحةٌ من صور التحرر الروحي الذي لا تُفارقه ومضات الدهشة المُتأججة، ثورة عُنفوانٍ إبداعي لا تكف أنهَاره عن التدفق المُتجدد، عاشقة اللغة العربيَّة التي تسعى لابتكار ترياقٍ سِحري يُجدد شباب حروفها ومعانيها في وجدان الأجيال، من ترى في المُصادفات الصغيرة التي حمَلَتها على جناح الجد والاجتهاد والمُثابرة نحو عالم النجومية التلفازية الثقافية «هدايا في زوايا الكون» كانت إحدى «هدايا الكون» التي اختار أن يُهديها عالمنا العربي لتظلَّ تلك النجمة المُتألقة على أرض الواقع الثقافي للغتنا العربيَّة، وتُضفي على فتنتها مزيدًا من الفتنة المَعنويَّة والموسيقيَّة.
د. بروين حبيب من القلائل الذين حين يحضر اسمهم في الذاكرة يشعر السامِع أن حرف الدال والنقطة التي تسبق أسماءهم أصغر من رونق الاسم وهيبته! فبينما تُضفي تلك الدال فخامة على أسماء آخرين وقيمةً قد يحتاجونها؛ نجد اسم «بروين حبيب» هو الذي يُضفي الفخامة والكبرياء والقيمة العالية إلى هذا الحرف بصورةٍ تلقائيَّة! نحنُ هُنا أمام ظاهرةٍ من الظواهِر العِصاميَّة التي يصعب تبلورها بمجهودٍ ذاتي في عالمنا العربي المُعاصِر فضلاً عن نموّها وصمودها واستمرارها في ساحاتٍ محفوفة بالعثرات ومشحونةٍ بالصراعات المُجتمعيَّة والمِهنيَّة، وكأنها بطلةٌ أُسطوريَّة فرَّت من سطور إحدى الروايات الخياليَّة لتعيشَ بكُل أحلامها وسعيها الحثيث لتحقيق تلك الأحلام على أرض الواقِع!
شخصيَّة تجمع بين المُستحيلات التي كوَّنت شخصيَّات أشهر ملِكات التاريخ، تمتزج في كيانها الرهافة غير المُتناهية للمشاعر والحزم الجاد مع الذَّات، حُرية الروح التي لا تعترف بحدٍ أو قيد والإصرار على الاحتشام الدائم في المظهر والسلوك، نظرة البراءة الطفولية المُتدفقة بالدهشة وتلك النظرة الثاقبة التي يشعُر الرائي حين تُسددها نحو مُحاورها أنها تقرأ ما وراء سطور شخصيته لترى ما تحت القناع، مُدمنة قراءة الكُتُب التي ارتقى نهمها لاعتبار كُل مخلوقٍ تُصادفهُ كتاب يستحق الغوص بين صفحات أفكاره وقراءة ما وراء سلوكه وكلماته، بعضهم يُقرأ في غضون لحظات، وبعضهم خلال سُويعات، وقلَّة منهم يستحق عُمرًا لقراءته. إنها لا تترك شيئًا تُحبه وشأنه؛ فما أن تقع في غرامٍ شيء حتى تقتل تاريخه وتفاصيلهُ بحثًا بدءًا مِن عالم شاعِرها المُفضَّل وانتهاءً بنوع طعامها المُفضَّل! فارِسَةٌ لا يُشق لشجاعتها غُبار في معاركها مع كُل جديدٍ يُحاول ارتداء درع الغموض أمام مخزونها المَعرِفي، وبينما انتصَرَت فوضى وسائط التواصُل الإلكتروني الحديثة على لمعان اسماءٍ ثقافية أغرقها الارتباك أمام تلك الموجة الغامِرة؛ سارعَت بروين حبيب بالغوص في هذا العالم وتعلُّم كل أشكال السباحة المُتاحة في مُحيطاته لتنتصر عليه، وتأسُره، وتحوله إلى خادمٍ مُطيع في بلاط مملكتها الإعلامية الاستثنائيَّة!
لعل من أكثر صِفاتها الآسِرة مُساهمةً في استمرارية تفوُّقها حتى اليوم تركيبة شخصيتها الفريدة التي تجمع بين التواضُع والكبرياء في آنٍ واحد، لقد نجَحَت في الحرص على بقاء غُرفة التواضُع نظيفةً في وجدانها حتى بعد تحليقها في فضاءات النجومية ولمسِها غمام الشُّهرة، فلا تترفع عن الرد على تعليقات مُتابعيها على وسائط التواصُل أو رسائلهم الخاصة، ولا تُبدي تذمُّرًا أو تبرُّمًا ممن يقتربون منها لإلقاء التحيَّة في مكانٍ عام! وبينما لم تخجَل يومًا من الإفصاح عن ترعرُعها في بيئةٍ بسيطة ومنزلٍ لم يتوفر فيه أكثر من كِتابين أحدهما كلام الله مُتمثلاً بالقرآن الكريم والآخر يُناجي الله مُتمثلاً بكتاب أدعية؛ تظلُّ فخورة بطفولتها في «حي المخارقة» المنامي الشهيرُ بإنجابه أسماء أدَّت أدوارًا مُشرقةً بها في تاريخ التنوير والإبداع والثقافة، مُتمسكة بامتنانها لوالدتها التي طمحَت إلى رؤية أحلامها بالتفوق العلمي تتحقق في ابنتها، وكانت من أسباب دخولها في «علاقة عشقٍ مع اللغة مبنيَّة على النص المُقدَّس» حين أخذتها إلى الكُتَّاب «المطوَّع» لتختم القُرآن الكريم في سن التاسِعة، قبل أن تدخل ستوديو الإذاعة للمرة الأولى في الحادية عشرة من عُمرها لتُشارك بصوتها في برنامج «سلامتك» من إنتاج «مؤسسة الإنتاج البرامجي المُشترك لدول الخليج العربي»، فتثمل بأجواء الإذاعة وتغرق بأحلامها في جُدرانها الإسفنجية العازلة للصوت، لذا لم يكُن غريبًا أن تُصبح أصغر قارئة نشرة أخبار رئيسية على شاشة تلفزيون البحرين بعد أعوام، وتغدو مُقدمة برامج قبل تخرجها من كُلية الآداب في جامعة البحرين، ولم تُفارق شغفها الإعلامي خلال فترة عملها مُعلمة لُغة عربية في إحدى المدارس الثانوية للبنات على مدى خمسة أعوام ونصف بعد تخرُّجها من الجامعة؛ بل قدّمَت – في الوقت ذاته- اثنين من أهم البرامج الثقافية في ذاكرة تلفزيون البحرين وهُما: «شظايا الإبداع» و«شاعرٌ في قلب عصرِه»، قبل أن تمتطي فرسًا جديدًا من خيول مُغامراتها الجامحة وتُقرر بيع سيارتها لتتمكن بثمنها من التحليق نحو جامعة «عين شمس» في القاهرة لإكمال دراساتها العُليا، وتعيش بكُل حواسِّها حالة من الوله والحنين لذاك المُدرَّج الذي وقف فيه عميد الأدب العربي د. طه حسين، بينما تتعملق أحلامها بلقاء عمالقة الفن والأدب العربي وعلى رأسهم شاعرها المُفضل «نزار قباني»، وإذا بمارد مصباح الكون يُحقق أحلامها بلقاء أولئك المُبدعين، فتُصر على ممارسة عادة الغوص حتى العُمق في كُل بحرٍ يُشرع ذراعيه مُرحبًا بها، وتهتم بالإشراف على أدق تفاصيل ضيوفها من لحظة الاتصال الأوَّل بهم إلى لحظة الوداع، إلى درجة حرصها على مُرافقة ضيفها النجم السينمائي «نور الشريف» إلى السوق لاقتناء زُجاجة عطر مُحددة كان يود اهدائها لزوجته النجمة «بوسي».. يا لها من بطلةٍ لم تكتفِ بنسج خيوط روايتها الأسطوريَّة؛ بل عرفت كيف تمزج فصول تلك الرواية بروايات حياة نجومٍ آخرين!
لعل أبرز ما يُميز التاريخ الإعلامي للنجمة «بروين حبيب» كونها مهمومة بـ «تَلفزة الثقافة»، فهي ترى أن التلفاز هو «المنبر الأخطر لتزييف الثقافة» ما لم يتم إنقاذها من براثن ذاك التزييف، لذا حملت على عاتقها مسؤولية المُساهمة في عملية الإنقاذ تلك بما تُقدمه من برامج ثقافيَّة جادة رُغم تكرار تعليقات بعض القائمين على شؤون المحطات التلفازية التي ترى فيها «بنتًا خليجيَّة قريبة من قلب المُشاهدين، تمتاز بابتسامة حلوة وإطلالة محبوبة، فلماذا تُحرق نفسها بتقديم برنامجٍ ثقافي؟ أليست برامج المُنوعات والبرامج الخفيفة خيارًا أكثر مُلاءَمة؟!»، لكن إيمانها برسالتها الثقافية جعلها تُصر على هذا الخيار، لا سيما مع يقينها بأن «أي نافذة تُفتح في الإعلام المرئي لا بُد وأن يكون وراءها شخصٌ مؤمنٌ من رأسه إلى أخمص قدميه بهذا العمل الثقافي وكل جيناته شغوفة به»، ووعيها بأن جوهر الإعلامي أهم من مظهره، وأن الإعلامي «دون ثقافة» ليسَ إعلاميًا بل مُجرد «دمية» تقرأ ما يُملى عليها وحسب، لذا يُهمها أن تكون «مقروءة» أكثر من كونها «مرئيَّة».
الحديث عن النجمة «بروين حبيب» باعتبارها «ظاهرة نادرة» لا ينتهي، هذه النجمة كُل ما فيها صنَع نفسه بنفسه، وما دام لا حدود لمساحات أحلامها المُمتدة فلا حدود لما يُمكن أن تمسُّه بعصا روحها السحريَّة فيغدو واقعًا مُتجليًا، نحن هنا أمام روح إحدى بطلات الأساطير الإغريقية بهويةٍ عربية بحرينية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك