شكّل النقد العربيّ الحديث في بواكيره الأولى نصوصًا تأسيسيّة لا تزال تخضع حتى الآن للتأويل وإعادة القراءة. ومن النقاد العرب المحدثين الذين يمثل أيقونة إشكالية محرِّضة على المغايرة والاختلاف الناقد المصري وعميد الأدب العربيّ طه حسين؛ فبعد خمسين عامًا على وفاته لا تزال نصوصه مجال درس وبحث وإعادة نظر. وتمثِّل ثنائية (العمى/البصيرة) الأنساق الكبرى الظاهرة والمضمرة في خطاب طه حسين النقدي. لقد أثَّر العمى بشدة في إنتاج خطاباته النقدية المغايرة. ومنها آليات المشافهة وتأثيراتها الأسلوبيّة في كتابته، والمبدأ الحواري الذي اعتمده في كتبه وفي سجالاته النقدية إلى التَكرار وغيرها. لقد ألَّف طه حسين ثلاثة كتب عن أبي العلاء المعري هي: (تجديد ذكرى أبي العلاء)، و(صوت أبي العلاء)، و(مع أبي العلاء في سجنه)؛ وهي مقاربات نقدية وصلت إلى حدّ «التماهي التام» مع أبي العلاء المعري من خلال تلك السرود الطباقيّة التي حرص طه حسين على إبرازها، وهو يفكِّك نقديًا مجمل خطاب أبي العلاء المعري الإبداعي والفكري. إنَّ مثل هذه المطابقات النقدية القائمة على الأمثولة والتماهي تؤكِّد تلك المغايرة النقدية له؛ وهي مغايرة نقدية تصدر عن ثنائية (العمى/ البصيرة) في مجمل خطابه النقدي.
لقد مثَّل العمى المجاز الأكبر في حياة طه حسين في عوالمه الذاتيّة الشخصيّة وفي مساراته الأكاديميّة والثقافيّة الإبداعيّة. إنَّ العمى بالنسبة إليه كان يعني أنَّه «يحمل معه في كلِّ مكان زنزانة سجن العمى المحمولة»، كما يقول خورخي لويس بورخيس. شكَّلت تجربة العمى الحدود والتخوم التي تفصل عوالمه عن الآخرين. لقد تماهى طه حسين إلى درجة المطابقة التامة مع أبي العلاء المعري في الجزء الأول من سيرته الذاتية (الأيام)، وفي كتبه النقدية التي نشرها في مسارات زمنية متباعدة: (تجديد ذكرى أبي العلاء)، و(صوت أبي العلاء)، و(مع أبي العلاء في سجنه)؛ الأمر الذي يؤشِّر إلى امتداد علاقة التماهي لتمثِّل هذه العلاقة أليجوريا رمزية كبرى عند طه حسين الأكاديمي الناقد والأديب (العمى عورة، إحداثيات العزلة، الكتابة العمياء، والبلاغة العمياء، والانسحاب من العالم).
وإذا كانت أطروحة طه حسين الأولى (تجديد ذكرى أبي العلاء) صادرة عن منهجية تاريخيّة صارمة في التأريخ والشرح والتأويل في تتبع زمني لمسارات أبي العلاء المعري فإنَّ طه حسين سيفارق هذه الروح العلمية النقدية الصارمة في كتابيه التاليين عن أبي العلاء المعري وهما (صوت أبي العلاء) و(مع أبي العلاء في سجنه)، وسيتخفف كثيرًا من هذه الصرامة إلى درجة الانعتاق من عدة الناقد بما فيها من علميّة وصرامة منهجيّة. لقد توحَّد طه حسين مع صوت أبي العلاء المعري إلى درجة المطابقة والانصهار معه في كتابه (صوت أبي العلاء) إذ يقول «أنا أجد في صوت أبي العلاء أعذب في النفس وأحب إلى القلب من كلِّ صوت ومن كلِّ صدى». إنَّ الحب عند طه حسين من هذه الزاوية كما يذكر الناقد جابر عصفور في كتابه (المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين) هو حالة تعرف على الذات، من خلال عمل أدبي يتحوّل إلى مرآة لها، وكلما ازداد هذا التعرف ازدادت نشوة هذه الأنا، وشعرت بتلك البهجة النرجسية التي تعانيها عندما نجد صورتنا منعكسة في غيرنا، وهو اهتمام يؤكد تحوُّل العمل الأدبي في اللحظة المعرفية والنقدية للحب إلى مرآة لا تعكس سوى ما يوجد في اللحظة ذاتها، وليس ما يوجد خارجها. إنَّ ثنائية الحب/الكره هي التي جعلت أبا طه حسين نقيضًا لبشار بن برد والمتنبي على السواء وقرينًا لأبي العلاء. إنَّ هذا الوعي الحاد بالعزلة هو الذي حوَّل كتاب (صوت أبي العلاء) إلى سيرة طه حسين الذاتية المقنعة والموازية إلى حدّ التماهي مع سيرة أبي العلاء الشخصيّة والإبداعيّة، ويتحوّل أبو العلاء في (مع أبي العلاء في سجنه) إلى أديب يتدفق حديث الحب الشجي وفي (صوت أبي العلاء) نجد تلك المفارقة النقدية التي مكنت الناقد من أن يجد أصول الفلسفة العلائية بأكملها في روايات كافكا.
وفي (مع أبي العلاء في سجنه) تشتغل لعبة السّرد المتخيّل لتستحضر تلك المحاورة المتخيّلة بين الناقد طه حسين والشاعر أبي العلاء المعري، ويتحوّل السجن إلى موازٍ رمزي لكلِّ ما يحول بين يفصل الناقد والشاعر عن العالم في تلك التمثيلات الكنائيّة (الأليجورية الكبرى). لم تتسق علاقة طه حسين بالمعري اتساقًا نمطيًا واحدًا، بل تباينت كلما مضى به العمر: من الكره الشديد إلى الإعجاب والحب المطلق إلى التوسط الرمزي الذي جعل الناقد يستولي على صوت أبي العلاء وينطق باسمه في سيرة ذاتية ملتبسة!
تجترح فدوى مالطي دوجلاس في (العمى والسيرة الذاتية، دراسة في كتاب الأيام لطه حسين) مصطلح (الكتابة العمياء)، و(الكتابة العمياء) لديها لا تعني ببساطة نسج تجربة بطل أعمى على الرغم من قيامها بوظيفة النسخ هذه ظاهريًا. (الكتابة العمياء) تميل بطبيعتها إلى الإيحاء بوجود شخصية فاقدة البصر أو بتكوين نظرة هذه الشخصية للعالم بينما توحي الكتابة المبصرة بوجود شخصية قادرة على الرؤية. إنَّ الصوت العقلاني الصارم الشاك للناقد في كتابه في (الشعر الجاهلي) يتبدل ليحل محله صوت عاطفي متعاطف مع هذا الشعر القديم المسكين في (حديث الأربعاء)،. ويتبدل نهج (تجديد ذكرى أبي العلاء) بقواعده التاريخية لتحل محلها قواعد مغايرة لنهج مغاير في (مع المتنبي). وبعد أكثر من خمسة عقود على وفاته لا يزال طه حسين يشغل النقاد والباحثين في طبيعة خطابه النقدي المغاير.
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك